قيثارة التلاوة
محمد عبده المنزلاوي
وأحسب أنه لم يقرأ القرآن الكريم أحد في عصورنا المتأخرة كهذا الرجل... ولا يمكن فهم طريقته في اﻷداء إلا أنها سر بينه وبين ربه.
- التصنيفات: موضوعات متنوعة -
ويظل هذا الرجل هو المتربع على عرش قلبي من بين كل القراء ترتيلًا وتجويدًا، صوت باكٍ يستجيش العَبرة، ويستلب الفؤاد، ويحرك الجماد، ويوقظ الوسنان، ويأسر اليقظان حين ينزف بالقرآن نزف الخاشع المتبتل، ولا أستفتح يومي إلا بصوته سواء أكنت في العمل، أو في البيت، أو في السيارة. وكثيرًا ما يطويني النوم على ترتيل ترنيمه العذب اﻵسر.
وهو رقمٌ صعبٌ في عالم القراءة الفذة لا يكاد يختلف حوله عاشقان محبان لحلاوة القرآن وروعة اﻹتقان. وهو عند أصحاب اﻵذان الذهبية والوجدان المرهف لا يكاد يقع في مقارنةٍ مع أحد.
وأحسب أنه لم يقرأ القرآن الكريم أحدٌ في عصورنا المتأخرة كهذا الرجل، ولا يمكن فهم طريقته في اﻷداء إلا أنها سر بينه وبين ربه.
إن بحة الشجن ورنة الحزن عنده، والتي تنبعث في انسيابية وتلقائية عجيبة لا يمكن أن تتكون بمجرد الدربة وطول الممارسة؛ بل هي شيء آخر لا يتكون إلا من خبيئة صالحة، وسر مدخر بين يدي القدوم على الملك، ولا يتأتى ذلك إلا لمن عاش مع القرآن؛ ففقه معانيه، وأدرك مراميه، وامتزج بروحه امتزاجًا لا يقبل الانفصال.
وحينما يتكاثف ران قلبي وتعلوه غبرة الحياة الدنيا وصدأ الغفلة فإنني أتطلب بريقه ونقاءه في القرآن الكريم عبر صوت هذا الرجل، الذي كأنما انبعث غضًا طريًا من الجنة!
وقد صدق الحويني إذ قال: "لقد أفسد المنشاوي علي أذني؛ فلا أكاد أسمع القرآن من غيره".
ورحلتي مع المنشاوي رحلة طويلة مذ كنت طالبًا في الصف اﻷول اﻹعدادي وهي رحلة لا تنتهي إلا بوفاتي؛ لم أملّ من صوته ولو للحظة، وإنني على استعداد أن أظل أكتب في الرجل إلى أن يجف المداد ولا أراه يجف.
اسمعوه حينما يختم القرآن ترتيلًا في آخر جزء الملك وجزء النبأ حتى سورة الناس، فكيف هاتيك القراءة كأنه يودع القرآن إلى غير رجعة فينزف ﻷجل ذلك نزفًا لا أنه يقرأ!!
أي صوت علوي آسر ينثال من عبق القرون الثلاثة اﻷولى فيختطف معه اﻷرواح ويسبي اﻷلباب؟!!
ولو جاز لنا أنه نصفه بالملائكية لفعلنا، غير أنه لا يجوز.
وصفه أحد أصدقائي اﻷدباء فأحسن الوصف إذ قال: كأن أحبال صوته نسجت من أوتار الأحزان وهزتها رياح الحنين، أو كأن صوته خارج من رحم اﻷمل مسافر في بحر اﻷلم على سفين اﻷنين!!
رحم الله شيخنا محمد صديق المنشاوي، وعوضنا بمن يداعب بصوته أوتار قلوبنا كما كان يفعل.