يا يُوسف
ففي القُرآن ما يُحيي نُفوسًا ؛ غَفَت في مَفرش اللهو اتكالًا
يقول المُبطلونَ كفاك وهمًا ؛ تعال لمُتعة الدُنيا تعالا
وما عَلِموا بأنّي في طَريقي ؛ أسيرُ بموكبِ النُّورِ اعتدالا
- التصنيفات: الزهد والرقائق - التقوى وحب الله - تزكية النفس - أعمال القلوب - الطريق إلى الله -
مَدخَل :
نعم، أفعلها الآن، مرّة واحدة وَحَسبْ.. نظرة هي، ليس إلّا!!
يجلس بأريحيّة تامّة.. يبحث بسلاسة بين مقاطع الفيديو ..
وأخيرًا يصل لبُغيته، ليستمَع إلى هذه الفاتنة..
ولم لا.. لقد سمع أنها جميلة، وجدًا.
وما الضَّير في مشاهدة أغنيّة واحدة لها وحَسبْ.
لكن .. ملابسها فاحشة فاضحة.. مُقززة؟ (لام نفسه)
لا بأس.. فوالده واعظ المَسجد لن يراه الآن. (اتبع هوى نفسه)
أمّه مُنهمكة في أعمال البيت، إخوانه كلٌّ في غُرفته
ثيابه المُنَمّقة ولحيته الكثيفة تُضفيان عليه مظهرًا “مُتدينًا” مَرمُوقًا!
وطالت النّظرة لمقطع كامل، ثُمّ تلاه آخر! الأمر مُمتع إذًا.
وبات لا يكترث لكل هذه المَشاهد المُخجلة التي يَراها بينَ الفينة والأخرى (وَحدَهُ)،
يومٌ وراء يَوم .. طُبِعَ على قلبه، فَمَا عاد يشعر بالحَرج من مُشاهدتها أبدًا.
يَتَنَقّل ببصره دُونَ أن تنتابه هذه الوَخزَة في صَدره حينَ كان يُحاسب قلبه آخر كُلّ ليلة.
تُراهَا أينَ ذهبت تلك الوخزة !!
اعتاد الأمر، كلّما وجد نفسه (وحده) يَسمع ويَرى
يأكل بعَينَيه ويَسقي قلبه من قِطران مشاهده -المُخزية- المُفضلة.
ثُم هو نَفسه بينَ الأحبّة والرّفاق يَركع ويَسجد .. يَذكُر ويدعو برَتابة.
"اللهُمّ لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتتنا … " آمين !
وقد يجري بين الأصدقاء في شتّى الأعمال الخيرية.
ثُمّ إذا جنّ عليه الليل، يفرح بنَفسه الشّقيّة، ويُنَحّي إيمانهُ وعقله جانبًا
ويُكمِل ما قد كان من خزي وَصغار (وَحدهُ)!
وهكذا …
تَنَاسَى أنّ الله عليه رقيب ..
بل جَعله أهون النّاظرين إليه .
——
تمشي كما شَبهها المُصطفى قبل أكثر من 1400 عام.. (كاسية عارية).
ملابس مُخجلة مُقززة، تُنافي فطرة الإنسان السَويّ.
تَميل في الأسواق وتُصدر الضّحكات.. تَنظر لهذا وذاك.
لا تُبالي بمن ينهشونها بعيونهم.. تجلس مع (أصدقائها) (أشباه الذّكور)
يتبادلونَ الأحاديث التّافهات والضَحِكات ..
ويعجّ هاتفها بأسماء العشرات منهم.
ثُمّ تأمل أن يرزقها الله بهذا الخَلوق الصالح ..
يُحسن معاملتها ..
يغضّ قلبه قبلَ بَصره عن من سِواها ..
يُرضيها ويُسعدها ..
لا يَميل بطرفه لغيرها ..
هيهات .. هيهات !!
اللهم إلا رحمةٌ من الله ولحكمة عنده.
—-
يُطلق بصره هُنا وهناك، يُضاحك هذه وتلك..
يُكيل كلماته المَعسولة لعشرات من الفتيات ..
يجلس مع هذه بدَعوى مُساعدتها ..
يُسلّم على هذه .. ويُربّت على يَد تلك عطفًأ عليها.
ثُمّ يأمل بعد بضع سَنوات ..
أن تكونَ له زَوجته؛ تلك العَفيفة .. الحَيية .. التقيّة ..
مَلكة في بيته مُطيعة صالحة طيبة!
قانتةٌ حافظةٌ للغيب .. بما حفظَ الله!
هيهات هيهات !!
هيهات هيهات لمن أصَرّ على الخطأ وتكبّر ..
اغترّ ولم يُبالي بمحكمة وشِرعَة سَماويّة لا تُحابي أحدًا..
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَـٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26]
اللهم إلا رحمةٌ من الله ولحمة عنده سبحانه.
نعم.. هكذا .. حساب دقيق.. لا اعوجاج فيه.
{سْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّـهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108]
ورُويَ عن ابن رجب أنهُ قال:
"خاتمة السُوء تكون بسبب دسيسةٍ باطنة للعبد، لايَطَّلع عليها النّاس".
وكذا قالَ ابن القيّم :
"أجمع العارفون بالله، بأن ذُنوب الخَلواتِ هي أصل الانتكاسات،
وأن عبادات الخَفاء هي أعظم أسباب الثّبات".
وقد قال أحد السلف: "احذروا النَسَّافات".
قيل: "وَما النَسّافات!" قال: "ذُنوب الخَلوات، تَنسف الحَسنات".
—–
وهذه في درس علم شَرعيّ وغيره، لا تتذرّع بشيء
وإنما تحرص على غضّ بصرها جدًا .
حتّى وإن كانت وحدها، تشاهدهُ عبر شاشتها.
خشية وحرصًا على قلبها ..
أن تُطلق نظرها هُنا وهُناك أو أن تُبرر لنفسها ..
حياءً وخَوفًا من الله ألا تُطيع ما أمرها به من فوق سبع سماوات ..
تُدثر قلبها بذكر باريه، وتُخبره .. حذارِ أن تكون ممن يقولونَ “سَمِعنَا فَعصينا”!
اثبت يا قلبي؛ فالآخرة خيرٌ وأبقى.. إنّما الدُنيا فَناء.
ولأجل جهادها هذا؛ يَوم وراء يَوم تَذوق لذّة (التَقوى) لذة حرصها ويقظة قلبها.
فتسمو رُوحها عن هذه الدنيا برُمّتها..
أجل يحدث هذا .. حينَ يسجد قلبها سجدة طُهر لا يقوم منها أبدًا..
حتى يَلقى وجه ربه الكريم.
وإن سألتم قلبها، أيحدث هذا!؟
فقط يَتلوا عليكم قَبسٌ من آية واحدة، تُلخص الأمر، بوضوح، دُونَ أيّ تعقيدات.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّـهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7]
ارتواء في القلب، ولذّة إيمان حقيقيّة، بَلسَم ينساب ويُسكب بهدوء..
لتعي القلوب مَعنى من تَركَ شيئًا لله، عوّضه الله خيرًا منه ..
وسُبحانه .. نَحنُ من سيجني ثَمرة هذا، رَحمة ومِنّةً مِنهُ.
وابن القيّم له قول جميل .. يقول:
"جعل الله (أهل طاعته) أكرم خلقه عليه، وأهل معصيته أهون خلقه عليه.
وكُلما عمل العبد (طاعة) ارتفع بها درجة، ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين".
—–
كُلّما شَعر أن قلبه بدأ يتهاونَ في أمرٍ ما، رَدَّدَ عليه قول رسولنا العظيم،
« » (صحيح البخاري رقم 52).
يُتمتم بينَه وبينَ نفسه قول سُليمان التميمي رحمة الله عليه.
"إن الرجل ليُصيب الذَّنب في السرّ، فيُصبح وعليه مَذلّتهُ!
خمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه
ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر
وحرمان العلم، ولباس الذلّ وإهانة العدو، وضيق الصدر
والابتلاء بقرناء السوء الذين يفسدون القلب ويضيعون الوقت، وطول الهم والغم".
كُلّ صُبح ومساء يَرفع أكفّ الدعاء مناجيًا ربّه :
اللهُمّ ارزقني لسانًا طاهرًا، ذاكرًا، تائبًا، مُرتلًا لآيات كتابك، زاهدًا في الغيبة
تائبًا عن النّميمة، ناصحًا لوجهك الكريم، مُتعففًا عن الفاحش من القول
وعن كل ما لا يُرضيك، يغرف من قلب مخلص حِصنه اليَقين
اللهُمّ حَصّن فرجي، وطَهّر قلبي واغفر ذَنبي
أتُراه عزّ وجَل يُضيّع هؤلاء، ولا يجزي الإحسانَ بالإحسان!؟
كلّا والله. فبرحمته وفضله لا يُضيّعهم، ومنهاجهم
{وَالْعَصْرِ . إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].
لا يُضيّعهم وبينَ صدورهم..
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ . وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المُلك:12]
إذًا، من كانَ يعلم في قلبه شيء يخاف أن يطّلع عليه النّاس
فليعلم أنّ الله مالك المُلك، يَسمع ويَرى .. لا تَخفى عليه خافية
يقول ابن القيّم :
كتبوا إلى عمر بن الخطاب
يسألونه عن مسألةٍ أيهما أفضل:
رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟
فكتب عمر:
"أن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من {الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3] ألا تَرى أن من مشى إلى مَحبوبه على الجَمر والشّوكِ، أعظم مِمَّن مَشى إليه رَاكبًا.
—–
(يا يُوسُف هذا العصر.. استَعصم!) (1)
وإياك أن تكون عدوًّا لإبليس في العلانية، صديقًا له في السرّ … كما يقول أحد العارفين.
مخرج :
كأنَّا إن تَلَونا الذِّكرَ نَحلٌ ؛ فمنا الشَّهدُ بالقُرآن سالا
قرأنا الكَهفَ فازدَدنا يَقينًا ؛ بأنّ لِغُربةِ الدّينِ الجَلالا
وبالرّحمنِ قُمنَا فاشتعلنا ؛ بنَارِ الشّوقِ للحُورِ اشتِعالا
وفي الأنفالِ رَتّلنا [أعِدّوا] ؛ وعزّ في ذَرَى بدرٍ تَعالا
كتاب الله مُؤنسنا بعصر ؛ تجرّعنا بكفيهِ الوَبالا
إذا ازدَحمَت مَواجعُنا وسالت ؛ مبادئنا مع الوَحل ابتذالا
ففي القُرآن ما يُحيي نُفوسًا ؛ غَفَت في مَفرش اللهو اتكالًا
يقول المُبطلونَ كفاك وهمًا ؛ تعال لمُتعة الدُنيا تعالا
وما عَلِموا بأنّي في طَريقي ؛ أسيرُ بموكبِ النُّورِ اعتدالا
قد استأنستُ بالقرآن حتّى ؛ رأيتُ سواهُ يُلبسني خَبَالا
من استغنى وفي كَفّيه بَدرٌ ؛ أيطلبُ في دُجى الليل الهلالا
أرى فتنًا كقطعِ الليلِ تُعمي ؛ قلوبَ السّائرين لها ضَلالا
سأحمي النّفسَ من داعي هواها ؛ تقولُ: نَعم، نَعم فأقول: لَا، لَا
سألجِمُها وأحكمها بعصرٍ ؛ تطاولَ بالمَفاتِنِ واستَطالا
سألبسُ من كتابِ اللهِ دِرعًا ؛ إذا فِتن الزّمانُ غَدَت نِبالا
وأوقِدُ من مَشاعلهِ طَريقي ؛ إذا امتد الظّلام به وَطالا
----------------
بقلم: أمل ناجح
هوامش
———–
‹1› اسم عنوان مقال د. حنان لاشين