محنة أم منحة؟!
مدحت القصراوي
إننا نشعر أمام قدر الله تعالى بالضآلة والعجز، كما نشعر بالعجز عن الإحاطة بكل حكمته تعالى، لكننا فيما أخبرنا وفيما علمنا تعالى بوحيه، وبما يتوسمه المؤمن، كفاية ليقطع المؤمن بحكمة الله وحمده، وليثق في أقداره تعالى ويطمئن إلى ربه.
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
سأل أخ كريم عن واقع أزمتنا التي نحياها اليوم: أمحنة هي أم منحة؟ وإن كانت فما الحكمة؟
والجواب:
كلاهما أخانا، فهي محنة بلا شك، بما فيها من ابتلاءات وقلق وخوف ومصاب وشهداء وأسرى.
ولكن الله تعالى حميد، يعني محمود تعالى، وذلك على ما شرعه وعلى ما قدّره، فيجري الله تعالى قدره بالحكمة وهي الحكمة التي من عرفها حمده عليها، فهي حكمة بحمد، فالله تعالى (حكيم حميد).
وسبب البلاء بل سبب أي مصاب في الأرض هو المعصية والتقصير في حق الله تعالى، فقد قال تعالى قولًا عامًا ومطلقًا {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30] ثم قرر تعالى أن من رحمته ألا يعاقبنا بكل ما كسبت أيدينا بل ببعضه فقال تعالى أنه يعفو عن الأكثر ويعاقبنا بالأقل {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}.
لكن هذا جزء من الحقيقة، فبقية الحقيقة أن ربوبية الله تعالى تدرك تقصيرنا وأخطاءنا، فمع العقوبة والبلاء الدنيوي يجعل فيه تعالى من الخير والحكم والدروس ما لا يدرك بغير هذا الطريق.
وقد جمع تعالى الحقيقتين في سورة آل عمران فقال تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:165-167].
وراجع ما قاله ابن القيم في الدروس المستفادة من غزوة أحد، ما رتبه تعالى على البلاء المسبب ردوه عن تقصير المسلمين، ومنها بلوغ المؤمنين لدرجات في الجنة لا تبلغها أعمالهم فقدّر تعالى من البلاء ما يرفعهم إليها في حين أن أعمالهم لن تبلغ بهم هذه الدرجات، ومنها بيان المنافقين وتمييزهم عن صف المؤمنين، وفي هذا من الخير العميم ما لا يقدر قدره فوجود النفاق بين الصف المؤمن يزيده خبالًا وإفسادًا وإرجافًا، وخلو صف المؤمنين منه يجعلهم أقرب للخير والنصر.
ومنها استحقاق الكفار للمحق لما بلغوا من أذى أولياء الله تعالى، فالله تعالى يثأر لأوليائه ويغضب لهم، فقد أهلك أمة لقتلهم مؤمنًا كما في سورة يس، نعم هو دخل الجنة لكن هم قال الله في شأنهم: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ، إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:28-29]، وقال تعالى في شأن ما أصاب الكفار من أوليائه يوم أحد: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140-141] فمحق الكافرين مسبب عما أصابوا من أوليائه، فما أعطاهم تعالى هذه الفرصة إلا ليستحقوا محقه ويبلغوا غضبه {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:55] ومعنى آسفونا: أغضبونا.
إننا نشعر أمام قدر الله تعالى بالضآلة والعجز، كما نشعر بالعجز عن الإحاطة بكل حكمته تعالى، لكننا فيما أخبرنا وفيما علمنا تعالى بوحيه، وبما يتوسمه المؤمن، كفاية ليقطع المؤمن بحكمة الله وحمده، وليثق في أقداره تعالى ويطمئن إلى ربه، يطمئن إلى قدره كما يطمئن إلى شرعه، ويثق في الحق الذي يحمله؛ إذ هو منتصر ولو بعد حين، ليعلم الخلق قيمته وليهدي الله اليه من شاء.