(12) لماذا نعبد الله؟

مدحت القصراوي

الافتقار صفة لازمة لكل نفس، فهو وصف لكل مخلوق من حيث أنه مخلوق، ولأنه مخلوق، فهو وصف لا يفارق أحدًا ولا ينفك عنه

  • التصنيفات: العقيدة الإسلامية -

لأننا فقراء إلى عبادته وحبه وطاعته..
لماذا نتجشم (عناء) التزام الشرائع؟! هكذا يسأل البعض، وكأنه ثقل على النفوس تريد النفوس أن تتفلت منه.
نعم قد تتفلت النفوس من بعض التكاليف، لكن ليس هذا بسبب عناء التكاليف أو لعيب بها، بل بسبب جهل النفوس وظلمها الكامن فيها..

إن الحقيقة أن الناس فقراء إلى الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر من الآية:15]، ويتبادر إلى ذهن البعض افتقار نفوسهم لمن يطعمها ويسقيها ويغذوها ويشفيها، وينفث همها ويفرج كربها.. فقط! فيتبادر جانب الربوبية فقط، بينما الفقر إلى الله تعالى ثابت في كل نفس من جهتين: (جهة ربوبيته بالإطعام والسقيا والعافية والرزق.. وغيره)، وثابت من جهة (الفقر إلى ألوهيته وعبادته وحبه)؛ إنهما فقران وليس فقرًا واحدًا، ندرك أحدهما بسرعة بينما الأعمق والأهم كثيرًا ما نضل عنه.

ويقول ابن القيم: "..وإذا كانت الروح مفطورة على تأله فاطرها وخالقها، وهي فقيرة إليه أعظم الافتقار من جهة [1]:
1- كونه ربها وخالقها وممسكها وحافظها ومغذيها وطبيبها ومداويها.
2- ومن جهة كونه إلهها ومحبوبها ومطلوبها وغاية مناها، فهي إلى معرفة هذا المطلوب ومعرفة كماله وجماله وأوصاف جلاله أشد شيء ضرورةً، وكلما كانت معرفتها بذلك أوفر كانت محبتها له أقوى، ما لم يعُقْها عائق ويمنعها مانع من مرض [2]. يتعطل به أو تضعف عن نهوضها بالجد في طلب هذا المحبوب" (الصواعق المرسلة، جـ4، ص1355)، وعلى هذا فُطر العباد.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "..وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانًا»، فأخبر أنه خلقهم حنفاء، وذلك يتضمن معرفة الرب ومحبته وتوحيده؛ فهذه الثلاثة تضمنتها الحنيفية، وهي معنى قول: لا إله إلا الله" (مجموع الفتاوى، جزء16، صفحة:345).

إن هناك افتقارًا ذاتيًا في نفوسنا يبحث عن الله تعالى، وعن عبادته وحُبِّه وطاعته، فالنُّفوس مجبولة على طلب هذا لأن فيه سعادتها، ولا ترتوي ولا ترتاح ولا يقرّ لها قرار حتى تحصّل هذه المحبة وتسد هذه الجوْعة إلى الله، وإلا لزمها هجير وسعير نفسي لا يفارقها، حتى أنك تلمح في وجوه أشد المتنعمين، المحرومين من ربهم، علامات الشقاء والبحث عن شيء ما، حتى لو لم يعرفوا ما هو هذا الشيء، ولم يعرفوا أنهم في احتياج لهذا الحب والتعبد وعكوف القلب على الله، وطلبه له وسعيه إليه والعمل من أجله.

وهذا الافتقار صفة لازمة لكل نفس، فهو وصف لكل مخلوق من حيث أنه مخلوق، ولأنه مخلوق.
فهو وصف لا يفارق أحدًا ولا ينفك عنه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له؛ فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته في الآخرة تقرّ عيونهم، ولا شيء يعطيهم في الآخرة أحب إليهم من النظر إليه، ولا شيء يعطيهم في الدنيا أعظم من الإيمان به، وحاجتهم إليه في عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة بدون ذلك بحال، بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكًا، ويحشره يوم القيامة أعمى" (مجموع الفتاوى، جـ1، ص23).

فمن صفات النفس اللازمة لها والتي لا تنفكّ عنها للمؤمن والكافرـ أن بها افتقارًا للتعبد لله تعالى، حتى الكافر الذي لا يعبد الله تعالى هو في ألم وجوعة شديدة للتعبد لله تعالى، لكن الانشغال بالدنيا يغطي على هذا الألم، فإذا لقي الله تعالى شعر بما اكتسبته روحه من العذاب، وما حُرمت من النعيم، بل من أعظم النعيم وهو عبادة الله تعالى، كما يقول الإمام البيضاوي في تفسيره: {الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر من الآية:17] يقول رحمه الله: "{الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وتحقيقه أن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيئات توجب لذّاتها وألمها، لكنها لا تشعر بها في الدنيا لعوائق تشغلها، فإذا قامت قيامتها زالت العوائق وأدركت لذّاتها وألمها" (تفسير البيضاوي، جـ1، ص 88).

فهناك فقر ذاتي في كل عبد تشهده كل ذرة منه؛ فإن بها فاقة تطلب ربها تعالى؛ فهي في احتياج شديد ودائم إليه، وأمر جلل نازل بها ومحيط بها لا يسده إلا رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الترقيم ليس في الأصل ولكنه للتوضيح.
[2] يقصد بالمرض هنا رحمه الله المرض الخُلُقي كالكبر والشهوة وإيثار العاجلة وغيره.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام