(16) لماذا نعبد الله؟
مدحت القصراوي
لا بد أن تعرفه وأنت تقرأ كتابه، فتعرف أنه خير شيء، وخير من كل شيء، وأنه أوْلى بطاعتك من كل شيء حتى نفسك التي بين جنبيك.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
الله خير من كل شيء..
من أجل معرفة الله تعالى بالنظر في كتابه، فإذا نظرت في كتابه فحدّثك ربُّك عن نفسه وعن أفعاله، أليست هذه أعظم المطالب؟ وأعظم ما يوجب حضورك والتفاتك؟ وإن تتبعتها وتدبرتها وجدتها إما:
أ- آيات تتحدث عن جلال الله وبهائه وعظمته، ببيان ما خلقه وما فعله وظهور مقتضى أسمائه وصفاته؛ وبالتالي فهي توجب من العبد إجلال الله تعالى والوجل منه، وتوجب الخشية والوجل من ذِكره، فيرى أنَّ الله قد خلق كل ما ترى عيناه، وأن الوجود كله من كرمه وصنعته، وأن المخلوقات كلها خرجت من يد الحكيم العليم الرحيم، وأنها مضمنة لحكمته وعلمه ورحمته بخلقه، فإن أهل السنة يثبتون "بالفعل المحكَم العلم، وكذلك نثبت بالفعل النافع الرحمة، وبالغايات المحمودة الحكمة" (مجموع الفتاوى ج16، ص356).
كما أنها دالة عليه وعلى وجوده وحياته وعلمه وقيوميته ورحمته وبره وإحسانه ولطفه وامتنانه، كما أنه تعالى خلق ما هو أعظم من الإنسان -السماوات والأرض-، ودبر الأمور أحكم تدبير، والله تعالى أنزل بالمكذِّبين عقابه وأهانهم في الدنيا وأهانهم في الآخرة، وعرّفنا تعالى بما أعده لهم في دار إهانتهم في النار.
ب- آيات تتحدث عن كمال الله تعالى وحمده، ببيان أفعاله وآلائه ودعوته خلقه إليه وإلى كنفه، مما يوجب لمن سمع خطابه حبه تعالى والشوق إليه وإيثاره على كل مطلوب، وأن يصبح للعبد فوق كل مرغوب، ويعلم العبد أنه تعالى أحق من طُلب؛ فكل مطلوب سواه باطل وهلاك على صاحبه وخواء محض كما قال من طلب غيره وعبد سواه، لما عاين الحقيقة يوم القيامة {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا} [غافر من الآية:74].
كما أخبرت عن إكرامه وتحببه إلى خلقه بنعمه، وأنه أعطاهم قبل أن يسألوه، وأعطاهم ما سألوه بلسان الحال ولسان المقال، وأنه قريب مجيب وأنه غفورٌ رحيمٌ ودودٌ؛ يفتح بابه لخلقه يدعوهم للتوبة ليغفر لهم ذنوبهم ويقيهم شر ما فعلوا! وإن يئس العبد من نفسه لم يغلق تعالى الباب دونه، وإن ظن أنه لم يعد يصلح لشيء كريم ناداه الله وقال له لا تقنط، بل ويكرمهم بالود والمحبة إن عادوا!
"يعلم الله سبحانه عنه ذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون؛ ويوسع له في الرحمة؛ ولايأخذه بمعصيته حتى يهيء له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط، وبعد أن يلج في المعصية، ويسرف في الذنب، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره، ولم يعد يُقبل ولا يُستقبل في هذه اللحظة، لحظة اليأس والقنوط، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]" (سيد قطب، في ظلال القرآن).
يحدثنا الله عن حلمه وتكريره بيان الآيات أو بتعبير القرآن (تصريفها) ليعود الخلق لربهم لنفعهم هم لا لنفعه سبحانه، كما عرّف خلْقه بنصره أولياءه وأنه أنجاهم ولو بعد حين، وأنه أحق هذا النصر والإنجاء لأوليائه على نفسه، وعرّف خلقه ما أعده لأوليائه في دار كرامته تعالى في الجنة.
جـ- آيات تتضمن معرفة قَدَره تعالى، وكيفية نفوذ أقداره وحِكمته التي تمتد قرونًا وأزمانًا فتصْدُق وتأتي في مَحِلها الموعود فيحمده عليها الحامدون، هذا في الدنيا، وأما الآخرة فبعد بلوغ الأقدار مستقرها ورسوّها في مراميها ينطق الكون كله ناطقه وبهيمه بالحمد، فبعد دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، واستقرار كلٍ في مقعده وداره: {ترى وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:75].
د- آيات أخرى تخبر عن أسماء الله تعالى وصفاته مباشرة كآخر سورة الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ . هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:23-24]، {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:70]، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ . وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [النمل:74-75]، {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص من الآية:88]، {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، {حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُم قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ من الآية:23]، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى من الآية:5]، وغيرها كثير.
فلا بد أن تعرفه وأنت تقرأ كتابه، فتعرف أنه خير شيء، وخير من كل شيء، وأنه أوْلى بطاعتك من كل شيء حتى نفسك التي بين جنبيك.