الشهوة حاجب إلى الله أو حجابًا عنه
مدحت القصراوي
من يطيع مرة ويفشل أخرى، فلم ينجح في مقاومة الهوي دائمًا ولم ينه نفسه تمامًا، فهو جارح للمعاصي..
- التصنيفات: تزكية النفس -
ركّب الله تعالى الشهوات في خلقه، للقيام بوظائف تخدم استمرار الحياة، وجعلها تعالى محل اختبار وفتنة، في كيفية استخدامها، فالشهوات بحسب استعمالها، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "الشهوات إما حجاب عن الله تعالى وإما حاجب إليه"؛ فهي إما صادة عن الوصول إليه تعالى بإيثارها على الآجلة، وإما قائدة إليه تعالى.
ولذا لمّا ذكرها تعالى بقوله {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [أل عمران من الآية:14]، ذكر بعدها البديل في مستويين فقال تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ} [آل عمران من الآية:15]، فذكر الدنيا أولاً، ثم ذكر الجنة، وذكر أعلى ما فيها {عِندَ رَبِّهِمْ}، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ}.
وقد انقسم الناس بسببها إلى أصناف:
الأول: أعلاهم وأتقاهم، وهم الربانيون والصدّيقون، فامتثلوا أمر الله تعالى، وانكسرت إراداتهم من أجل إرادته تعالى، وانكسرت له تعالى قلوبهم، وأطاعوا الله مخالفين هواهم، بل جعلوا الهوى -إن كان- تابعًا لأمر الله تعالى، وأخذوا شهواتهم من تحت الإذن الشرعي لا بمقتضى الهوى، وأصبحت الطاعة لهم ملَكة راسخة كأنهم طُبعوا على العمل على وفق أحكام رب العالمين، وهم في طاعتهم لا ينظرون إلى قوّتهم وطاقتهم يعملون بها، بل إنهم يعملون متوكلين على الله تعالى غير ناظرين إلى نفوسهم، فبه يعلمون وبقوته يمتثلون، وعلى هذا فهم لا يعجبون بنفوسهم ولا يمنون على ربهم تعالى، وهذه درجة حق التقوى.
الثاني: صنف يمتثلون أمره، لكنهم يقصّرون في التوكل ومشاهدة ربوبية الله تعالى في إعانتهم على تألهه وعبادته، فهم أضعف ممن قبلهم من حيث قدرتهم، ومن حيث بعض العُجب لرؤيتهم نفوسهم عند الطاعة، وذلك لضعف مشاهدة الربوبية التوكل، لكن هذين القسمين لا منازعة لنفوسهم في أمر الطاعة بل هم يعملون بها كأنهم جُبلوا عليها ورسخت في نفوسهم رسوخ الطباع.
الثالث: أقل ممن سبقهم، فهم يعملون لكن ثمة هوى في النفوس ومنازعة، لكنهم يجاهدونها ويخالفون أوامرها، لكن بقي للنفوس أوامر مخالفة لما أمر الله تعالى، وهذا لا يعاب عليهم لأنهم نهوها وجاهدوها {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ} [النازعات من الآية:40]، لكن عندما ترسخ فيها الطاعة وتصير ملكة ترتقي إلى المرتبة السابقة وهذه درجة عموم التقوى.
الرابع: من يطيع مرة ويفشل أخرى، فلم ينجح في مقاومة الهوي دائمًا ولم ينه نفسه تمامًا، فهو جارح للمعاصي {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [الأنعام من الآية:60]، وفي قلبه حياة فلحياة قلبه يشعر بضيق المعصية وظلمتها وألمها، وبحسب حياة قلبه يكون ألم المعصية، ومثل هذا لا يتلذذ بالمعصية، كما قال ابن القيم، وذلك لغلبة الألم واللوم، حتى أن هذا الألم واللوم ليقارنه في المعصية، ثم يعقبها ندم شديد.
وقد يمن الله عليه فيعقب معصيته من العقوبات العاجلة تذكيرًا وتنويهًا، وهي نفس لوامة رجّاعة إن غفلت تذكرت أسرع ما يكون، فلا تبقى على المعصية، فلا إصرار، آخيتها الإيمان والطاعة فإن جالت في معصية أو ألمّت بها رجعت إلى آخية الطاعة، لكن الذنوب جراحات؛ فيخشى على هذه القلوب من الجراحات فإنها منهكة ومضعفة، ولأن الذنوب جراحات فرب جرح وقع في مقتل.
لكن قد تكون منة على بعض من يطيع ويقصّر في مشاهدة الربوبية والتوكل، فيعجبون بنفوسهم، فتكاد أعمالهم أن تحبط. فإن علم الله تعالى من أحدهم خيرًا وأراد به خيرًا ابتلاه بالمعصية فوقع الندم وانكسر القلب، وشاهد أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وعلم واستيقن أنه لا نجاة إلا بمعونة من بيده النجاة.
الخامس: من يريد أن يفجر أمامه، فاسقًا فاجرًا، لا يلوي كثيرًا على شيء، لم يكذّب ولم يردّ أمر الله تعالى، لكن ضعف الإيمان المجمل، وضعف قلبه عن الطاعة حتى قلّ تذكره وارعواؤه، لكن ليس حتمًا أن يبقى على هذا الحال فلا بد أن يرى حقيقة فعله إما بتوبة وإما في قبره..
كما أن لله تعالى مننه على خلقه، وقد يمن الله تعالى عليه بتوبة يوقظ الله بها قلبه فيحيا قلبه ويتوب، وإن لم يفعل فإنه يفيق في قبره لكن لا تنفع الإفاقة ثَمّ، وما دام لم يخرج عن دين الله تعالى وعن الموجبة فثمة خير وإن قلّ، لكن الخطر شديد، وإن كُربة من كروب الآخرة لتُنسي أنعم أهل الدنيا نعيمه.
لكن كثيرًا ما يمن تعالى بالتوبة ويذكّر الغافلين ويعظ قلوبهم إما بآيات الكتاب، أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو الأحداث وتصاريف الأقدار ومصائب الخلق والنفس {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:17]، {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126].
وهذا مثَل ضربه الله تعالى لما مات من القلوب، ولهؤلاء قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فلكثرة الذنوب قد يظن أحدهم أنه لا أمل فيه ولا خير، وقد يستبعد الآخَرون عنه التوبة، لكن القلوب مفضية إلى الله تعالى ومكشوفة بين يديه، والله يعلم عن العبد ما لا يعلمه، ولو علم تعالى فيه خيرًا لأسمعه، فسبحان أرحم الراحمين، العبد ييأس من نفسه ولكن لا يقنّطه الله تعالى من رحمته بل لا يزال يدعوه إليه.
السادس: من يُغمر بالشهوات وطلبها حتى أنه إذا خوطب بالرسل والشرائع يكذّب بخبر الله تعالى أو يشك فيه، وهذا التكذيب أو الشك ليس راجعًا إلى نقص الأدلة، فالله تعالى لم يرسل رسولاً إلا وآتاهما على مثله آمن الناس، ولكن يعود الشك أو التكذيب إلى حالة من ثلاث:
1- إما أنه مُعرِض لا يهتم بأمر الله تعالى ولم يبحث في صحة ما جاءت به الرسل {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف من الآية:3].
2- وإما أن الله تعالى أغلق قلبه لئلا يفقه خطابه عقوبة له على آثامه ومعاصيه {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ . إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين:12-13]، فردّ الله تعالى عليهم فقال {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:15]، فمنعت المعاصي القلب أن يفقه، أو يصرف الله تعالى قلبه جزاء على تكذيبه وإعراضه أول ما جاءته الرسالة؛ فيعاقب بصرف قلبه عنها بعد ذلك {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام من الآية:110].
3- والحالة الثالثة: أن يجحد بلسانه ما علم صحته بقلبه عنادًا {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام من الآية:33].
السابع: من يريد الشهوة فيحول بينه وبين الحصول عليها أحكام الله تعالى التي لا يكذّب بها ولا يشك فيها ولا يجحدها، ولكنه ليحصّل شهوته يجد أن الطريق إليها ليس مجرد ارتكابها على وجه الغواية، بل يجد الطريق إليها هو ردّ أمر الله وتبديل حكمه، فلا يرعوي عن فعل ذلك، ومثل هذا كثير في زماننا، كمن يطلب شهوة النساء فلمّا يحول المجتمع بدينه وتقاليده عمومًا عن الإباحية، يرفض الدين نفسه ويسعى إلى تقليص سلطانه وإلى تحليل الحرام قانونًا وثقافة، ويحارب أي اتجاه للتقنين وفق منهج الله تعالى وشرعه، فهذا خلل عقدي وليس مجرد معصية وغواية.
وكمن يطلب شهوة السلطة أو الشهرة أو المال مثل بعض الصحفيين أو طامحي المناصب، أو ممثل مغمور أو يكاد يغرب نجمه أو غير ذلك، ويجد الطريق هو راية الإباحيين والعلمانيين والشيوعيين والملحدين، الرادّين لحكم الله تعالى وأمره؛ فيؤيد ذلك ويدعمه، فهذه ردة ولا ينفعه إقراره ولا معرفته ولا تصديقه، إذ أنه لا يفترق عن إبليس الذي علم الحق وكرهه ورفضه، فكذلك هذا، كره الحق وهو يعلم أنه الحق، لكن لتحصيل شهوته ردّه ورفضه.
فالشهوة قد تكون حاجبًا إلى الله تعالى بانكسار القلب، أو قد لا تتم الطاعة بسببها، أو قد يعصي، أو قد يفجر ويلجّ في فجوره، وقد يُعرض ويكذب أو يجحد، وقد يرد أمر الله تعالى فيرتد عن دينه وهو يعلم أنه دينه، وفي هذا جاء الأثر: "أشد الناس عذابًا عالم لم ينفعه الله بعلمه".
فانظر إلى من حاز الشهرة أو المنصب أو المال أو النساء، قد تكون وبالاً، ولا تفرح بمن تسلط عليه الأضواء فقد يكون قد دفع ثمنًا ثقيلاً جدًا ومرّا علقمًا، وقد يحسد أبسط الناس على خمول ذِكره وسلامة دينه، فكم من مشتري لشهوة قد خسر ما لا تتوقع، فلا يغرنّك تقلبهم في البلاد، ولا تحسبن الله غافلاً عما يعملون، ولا يخدعك نغم ورقص، وشهرة وأضواء، وكاميرات وتصفيق، وأسماء وإعلانات، وشهوات رخيصة، فالمدفوع فيها قد يفوق تصورك.