(3) أطمئنان في الدنيا؟!
مدحت القصراوي
ولننظر نحن من باب العبرة في هذه الدار، إننا نحتاج أن ننظر إليها نظرة من بعيد لتقديرها على حقيقتها وأخذ القرار الصائب في شأنها، فقد لا نحتاج إلى منازعة نفوسنا للرحيل منها، بل إذا نظرنا فيها نظرة معتبر قد ترحل معنا نفوسنا اشتياقًا إلى دار الموعد، رحيلًا أيسر.
- التصنيفات: تربية النفس -
عندما يتقرر أن لا وصول الى ربك تعالى الا بالمجاهدة، على إطلاقها، فلتبدأ أولًا من هذه الدار، هل أنت فيها مستقر أم قلق؟
وهل يستقر فيها عاقل؟! لكن ما أقل العقلاء!
إن القرآن يقرر أن الاطمئنان بها جريمة! كذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ، أُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7-8].
ولننظر نحن من باب العبرة في هذه الدار، إننا نحتاج أن ننظر إليها نظرة من بعيد لتقديرها على حقيقتها وأخذ القرار الصائب في شأنها، فقد لا نحتاج إلى منازعة نفوسنا للرحيل منها، بل إذا نظرنا فيها نظرة معتبر قد ترحل معنا نفوسنا اشتياقًا إلى دار الموعد، رحيلًا أيسر.
أولًا: هذه دار دائمة أم منقضية؟ أنت راحل عنها، فهي منقضية لا شك؛ فإن كانت منقضية فمتى؟ بعيد أم قريب؟
لا توجد إلا إجابة واحدة: اعلم أن كل ما هو آت قريب.
ونعيم هذه الدار ومتاعها مهما كان شأنه فانٍ، وكل ما هو فانٍ فهو قليل، قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:77].
وانظر إلى متاع الدنيا بأكملها في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « » (رواه أحمد والحميدي وابن أبي شيبة وابن حبان وغيرهم).
وانظر إلى قول عمر رضي الله عنه: "لو أن الدنيا من أولها إلى آخرها كانت لرجل واحد ثم مات لكانت حلمًا".
وانظر إلى قول ابن القيم رحمه الله بأن كل نفس تتنفسه في الدنيا يقابله آلاف آلاف السنين في الدار الآخرة في أي من الدارين: "ملايين السنين في الآخرة مقابل كل نفَس في الدنيا"، وأنه ينبغي على المرء أن يعلم حقيقة.
(أَيَّامَهُ الَّتِي تَخُصُّهُ، وَمَا يَلْحَقُهُ فِيهَا مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَيَعْلَمُ قِصَرَهَا، وَأَنَّهَا أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ مُنْصَرِمَةٌ، كُلُّ نَفَسٍ مِنْهَا يُقَابِلُهُ آلَافُ آلَافٍ مِنَ السِّنِينَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ، فَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ قَطُّ نِسْبَةٌ إِلَى أَيَّامِ الْبَقَاءِ، وَالْعَبْدُ مُنْسَاقٌ زَمَنَهُ، وَفِي مُدَّةِ الْعُمُرِ إِلَى النَّعِيمِ أَوْ إِلَى الْجَحِيمِ، وَهِيَ كَمُدَّةِ الْمَنَامِ لِمَنْ لَهُ عَقْلٌ حَيٌّ وَقَلْبٌ وَاعٍ، فَمَا أَوْلَاهُ أَنْ لَا يَصْرِفَ مِنْهَا نَفْسًا إِلَّا فِي أَحَبِّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ، فَلَوْ صَرَفَهُ فِيمَا يُحِبُّهُ وَتَرَكَ الْأَحَبَّ لَكَانَ مُفَرِّطًا، فَكَيْفَ إِذَا صَرَفَهُ فِيمَا لَا يَنْفَعُهُ؟ فَكَيْفَ إِذَا صَرَفَهُ فِيمَا يَمْقُتُهُ عَلَيْهِ رَبُّهُ؟)
(مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 447)
إن الدار الفانية يوجب فناؤها القلق منها والبحث عن دار باقية.
فمن علم زوالها وانقضاءها علم أنها ليست دار مستقر بل هي دار معبر واجتياز، وأن البقاء فيها الى حين، وأن ثمة وظيفة مطلوبة ومهمة لإنجازها، ثم الرحيل.
هل هذا فقط ما يبعث القلق ويوجب الرحيل؟ ثمة أمر آخر يوجب الرحيل ومنها والقلق من الاطمئنان إليها، يتبع إن شاء الله.