إنَّه الأب، وكفى!
عبد اللطيف بن هاجس الغامدي
إنها مشاعر الآباء نحو الأبناء، ومن ذاق عرف، فلا يدَّعي الخليُّ حُرقة الشجيِّ، فكم بينهما من بين؟!
- التصنيفات: قصص مؤثرة -
فيكفيك أن تعلم أنه الأب، لتسقط أمام عينيك أصدق المشاعر، وأخلص الأحاسيس، وأنبل العواطف، ولترى لهفة المحب، ورعشة المشتاق، وخفقة قلب المتيَّم الولهان!
إنها مشاعر الآباء نحو الأبناء، ومن ذاق عرف، فلا يدَّعي الخليُّ حُرقة الشجيِّ، فكم بينهما من بين؟!
فهيَّا يا أُختي ويا أخيَّ لنقرأ هذه الفريدة سويّا، لوالد مفجوع وأبٍ ملذوع فارق أبناءه فأحرقته مرارة البعد وحرارة الشوق، وحال السفر بينه وبين مرآهم، فغدا كالشجرة الجرداء في مهب عاصفة هوجاء، فتأمله ماذا قال!
أين الضجيج العذبُ والشَّغبُ *** أين التدارسُ شابَه اللعبُ
أين الطُّفولة في توقدها *** أين الدُّمى في الأرض والكُتُبُ
أين التَّشاكُس دونما غرضٍ *** أين التشاكي ما له سببُ
أين التباكي والتضاحكُ في *** وقتٍ معًا، والحزنُ والطربُ
أين التسابق في مجاورتي *** شَغَفًا إذا أكلوا وإن شربوا
يتزاحمون على مجالستي *** والقرب مني حيثما انقلبوا
يتوجهون بسوق فطرتهم *** نحوي إذا رَهِبُوا وإن رغِبوا
فنشيدُهُم: (بابا) إذا فرحوا *** ووعيدُهُم: (بابا) إذا غضبوا
وهتافهم: (بابا) إذا ابتعدوا *** ونجيُّهم: (بابا) إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملء منزلنا *** واليومَ، ويحَ اليوم، قد ذهبوا
وكأنما الصمتُ الذي هبطت *** أثقاله في الدار إذ غرَبوا
إغفاءةُ المحموم هدأتُها *** فيها يشيعُ الهمَّ والتعبُ
ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنُهُم *** في القلبِ، ما شطُّوا وما قرَبوا
إني أراهم أينما التَفتت *** نفسي وقد سكنوا، وقد وثبوا
وأحسُّ في خلدي تلاعُبهم *** في الدار ليس ينالهم نصبُ
وبريقَ أعينهم، إذا ظفروا *** ودموعَ حُرقتهم إذا غُلبوا
في كلِّ ركنٍ منهُمُ أثرٌ *** وبكلِّ زاويةٍ لهم صَخبُ
في النافذات زُجاجُها حَطَمُوا *** في الحائط المدهون قد ثَقَبوا
في الباب قد كسورا مزالجه *** وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصحن فيه بعضُ ما أكلوا *** في علبة الحلوى التي نهبُوا
في الشطر من تُفاحةٍ قضموا *** في فضلةِ الماء التي سكبوا
إنِّي أراهم حينما اتجهت *** عيني كأسراب القطا سَرَبُوا
دمعي الذي كتَّمتُه *** جلدًا لمّا تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا *** من أضلعي قلبًا بهم يجبُ
ألفيتُني كالطِّفل عاصفةً *** فإذا به الغيث ينسكب
قد يعجب العذَّال من رجلٍ *** يبكي، ولو لم أبكِ فالعجبُ
هيهات ما كلُّ البُّكا خَوَرٌ *** إنِّي وبي عزم الرِّجالِ أبُ
فلا تعجبوا! فإنما هو؛ أبُ!
وما الدَّهر إلاَّ هكذا فاصبر لهُ *** رزيّة مالٍ أو فراقُ حبيبِ