المنتحرون في المعتقلات السياسية.. اغتيال أم انتحار؟؟
عبد المنعم منيب
تظل روايات انتحار المعتقلين والمسجونين السياسيين في السجن معلقة بين رواية رسمية تؤكد الانتحار ورواية غير رسمية تتهم إدارة السجن باغتيال المسجون أو المعتقل السياسي
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
ربما سهل علينا أن نفهم أو نقتنع أن مسجونًا أو معتقلًا جنائيًا قد أدت به الضغوط النفسية التي طوقت رقبته في السجن إلى الانتحار سواء كانت هذه الضغوط مصدرها إدارة السجن، أم زملائه في الزنزانة، أم أسرته خارج السجن، لأن الصورة الغالبة عندنا عن السجين أو المعتقل الجنائي أنه شخص ضعيف الإيمان وضعيف الخلق مما دفعه لارتكاب جرائمه أصلًا التي أودت به للسجن، بغض النظر عن صحة هذه النظرة وذلك التعميم أم لا. كما أن إمكانية أن يموت السجين الجنائي تحت تأثير المخدرات أمر وارد وممكن تصديقه.
أما السجين والمعتقل السياسي فإن معظم هذه الأمور تنتفي في حقه من عدة نواحي، فالسجين والمعتقل السياسي عادة ما يكون على درجة لا بأس بها من الوعي والثقافة والصلابة يجعل من لجوئه للانتحار كوسيلة وحيدة للخروج من أزمته أو للهروب من ضغوط التعذيب أو سوء المعاملة في السجن أمر مستبعد، كما أن أكثر المعتقلين والسجناء السياسيين في العشرين سنة الأخيرة من الإسلاميين ومن ثم فهم يؤمنون إيمانًا راسخًا بأن الانتحار هو من أكبر الكبائر، ويمثل وجود جيش من المحاميين ومنظمات حقوق الإنسان المهتمين بالمعتقلين السياسيين والمدافعين عنهم عاملًا هامًا أيضًا لأنه يمثل ملجأ يلجأ إليه المعتقلون والسجناء السياسيون في حال تعرضهم للتعذيب أو سوء المعاملة أو الحاجة لطلب أي مساعدة.
وانطللاقًا من ذلك كله تأتي صعوبة أن نصدق بأن معتقلًا أو مسجونًا سياسيًا قد انتحر في سجنه. وتعتبر حالة الخصومة الواقعة بين المعتقل أو المسجون السياسي وبين الأجهزة الأمنية دافعًا بارزًا لعدم القبول بفكرة انتحاره والميل لفكرة اغتياله لأسباب سياسية وذلك لأن هذه الأجهزة التي تشرف على السجن هي رمز للحكومة التي عارضها هذا السياسي المعتقل، ومن ثم اعتقل بسبب هذه المعارضة. والشائع أنه في عهد الرئيس جمال عبد الناصر لم يعلن عن منتحرين سياسيين في السجون رغم كثرة المعتقليين والمسجونيين السياسيين في عصره، ولكن الذي شاع أنه كان يجري قتل معتقلي الإخوان المسلمين والشيوعيين تحت التعذيب في السجون ثم يتم دفنهم في الصحراء ويدون في الأوراق أنه هرب من السجن، وفي عهد الرئيس السادات لم يتعرض المعتقلون لما تعرض له نظرائهم أيام جمال عبد الناصر بسبب اختلاف المرحلة ورفع السادات لشعار سيادة القانون وقفله للمعتقلات، والذين اعتقلوا أيام السادات وتعرضوا للتعذيب لم يصل بهم التعذيب لدرجة الموت وبالتالي فلا يذكر أحد أنه تم الإبلاغ عن حالات انتحار أو اختفاء لأحد من المعتقلين السياسيين في عصره.
ثم يأتي عصر الرئيس مبارك بتولي مبارك الحكم وقد بطش السادات بالمعارضة من كل الأطياف السياسية والدينية قبل اغتياله بشهر بل وتم اغتيال السادات على يد مجموعة من أعضاء تنظيم مسلح معارض (الجهاد)، ومن ثم ضخت الأجهزة الأمنية مزيدًا من المعتقلين السياسيين في السجون ودارت عجلة التعذيب. وأشهر و أول من ذكر انتحاره في ذلك الوقت (ثاني شهر من حكم الرئيس مبارك) هو كمال السنانيري القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين والذي تم اعتقاله مع غيره من المعارضين بقرار الرئيس السادات (في 5 سبتمبر1981م) وتعرّض السنانيري في أثناء اعتقاله لتعذيب رهيب؛ أملاً في معرفة معلومات عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وكان قد تجاوز الستين من عمره، لكن إدارة السجن أبلغت مكتب النيابة العامة بالمعادي أنه وجد في زنزانته مشنوقًا في فوطة علقها الفقيد في أسفل حوض الطنبور الموجود في الزنزانة صباح 8 نوفمبر1981م، ورفضت أسرة السنانيري وجماعة الإخوان المسلمين الرواية الأمنية للحدث وقالوا كيف ينتحر رجل مؤمن كالسنانيري؟ وكيف صبر في سجون جمال عبد الناصر على أهوال التعذيب وسوء المعاملة عشرين عامًا ثم يأتي اليوم لينتحر بعد اعتقاله بشهرين فقط؟ ولا زالت قضية مقتل كمال السنانيري تثير الجدل كلما ذكرت، فبينما تعتبرها الأجهزة الأمنية مجرد عملية انتحار قام بها معتقل سياسي، تعتبرها أسرة كمال السنانيري وجماعة الإخوان المسلمين عملية اغتيال سياسي.
وربما كان كمال السنانيري أوفر حظًا بعد موته إذ تقف وراء قضيته أسرة واعية وجماعة قوية هي جماعة الإخوان المسلمين بآلتها الإعلامية الضخمة التي تذكر الرأي العام من حين لآخر بقضيته، وهناك العشرات غيره من المسجونين والمعتقلين السياسيين ممن ذكرت الأجهزة الأمنية في أوقات مختلفة أنهم انتحروا في سجنهم منهم من هُيئت الظروف لكي تتداول قصة انتحاره وسائل الإعلام، ومنهم من لم تتح لقصته فرصة التداول الإعلامي الكافي فاقتصر الأمر على خبر من خمسة سطور في صحيفة قومية بصفحة الحوادث.
فممن ساهمت ظروف قضيته أن تهتم بموته في السجن منتحرًا كان أم مغتالًا سليمان خاطر جندي الأمن المركزي الشرقاوي الذي وُجد صريعًا في زنزنزانته بالسجن الحربي بعدما كان أدين بقتل سبعة من الإسرائيليين في سيناء بسلاحه الميري في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وكالعادة كانت الرواية الرسمية أنه انتحر بينما رفضت أسرته والعديد من وسائل الإعلام هذه الرواية، وتساءلت أسرته عن سبب طلبه لكتبه الدراسية قبل موته بيوم فلو كان سليمان خاطر شخص يميل للانتحار فلماذا طلب كتبه الدراسية وطلب من أهله قبل مصرعه بيوم عمل الإجراءات الرسمية اللازمة كي يلتحق بالامتحان هذا العام؟ كل هذه كانت تساؤلات أسرته وشكوكهم التي روجتها وسائل صحف المعارضة في ذلك الحين، وقد اندلعت مظاهرات طلابية عارمة في ذلك الحين احتجاجًا على رواية انتحاره وخاصة في جامعة الزقايق حيث كان سليمان خاطر منتسبًا لها، ومرة أخرى ظل الوضع كما هو عليه ودُفن سليمان خاطر في حراسات أمنية مشددة ولم تقبل اسرته رواية الحكومة، ولم تتنازل الحكومة عن روايتها بأنه مجرد انتحار عادي لسجين سياسي في سجنه.
ومن الحوادث الأخيرة والمشهورة حول مقتل مساجين أو معتقلين سياسيين في السجن واعتبار إدارة السجن أنهم انتحروا مصرع أيمن إسماعيل والذي كان متهمًا في قضية الدكتور أيمن نور الشهيرة، وقد استمد مصرع أيمن إسماعيل شهرته من شهرة قضية ومكانة الدكتور أيمن نور وحساسية قضيته التي يعتبرها الكثيرون صراعًا سياسيًا بين أيمن نور وجمال مبارك شخصيًا على انتخابات الرئاسة عام 2011م.
أما العديدون الذين لقوا حتفهم في السجن ولم يحظوا سوى بخمسة سطور في صفحة الحوادث في إحدى الصحف فهم كثيرون ويصعب إحصائهم أو قل إن شئت الدقة فإن إحصائهم من السهل الممتنع. لماذا هو من السهل الممتنع؟ هو من السهل لأن كل ما يحدث في السجون أو أماكن الاحتجاز يتم تقييده في دفاتر وسجلات رسمية، كما أنه عندما يموت أي معتقل أو مسجون في مكان ما فإن إدارة السجن تقوم بإبلاغ مكتب النيابة العامة التابع لها السجن وتقوم بعد ذلك النيابة بمعاينة الجثة والتحقيق بشأن وفاته مع كل من مأمور السجن ونائبه، ورئيس مباحث السجن، وقائد العنبر الذي توفي فيه السجين، وزملائه في الزنزانة التي توفى بها (حسبما تحددهم إدارة السجن)، وطبيب السجن، كما يقوم الطبيب الشرعي بكتابة تقرير طبي بشأن الوفاة في حالة وجود شبهة جنائية حول موته، وتظل كل هذه الأوراق محفوظة في النيابة لأجل غير مسمى، لكن من الصعب أن نتتبع هنا كل هذه الأوراق لنعلن أسماء العشرات الذين توفوا في السجن وقيل أنهم انتحروا أو ماتوا بسبب الأمراض، بينما اعتبرتهم أسرهم أنهم تم اغتيالهم في السجن لأسباب سياسية، نعم ممكن أن تقوم منظمة حقوقية بتبني مشروع كبير لتتبع هذه الأوراق وتوثيق مثل هذه الحالات، ولكن هذا لم يحدث حتى الآن.
لكن هناك العديد من الأسماء التي يمكن أن نذكرها هنا على اعتبار أنها أمثلة على حالات الانتحار أو الاغتيال التي تمت لمعتقلين سياسيين فمن أوائل هؤلاء محمد البلتاجي الذي كان مخرجًا إذاعيًا وتم اتهامه في قضية تنظيم الجهاد الكبرى إثر اغتيال الرئيس السادات عام 1981م، ولكن المحكمة برأته في نهاية عام 1984م. وبعد الافراج عنه بشهور قليلة تم اعتقاله ووجد صريعًا في زنزانته الانفرادية بسجن استقبال طرة وقالت إدارة السجن أنه انتحر عبر صعق نفسه بالكهرباء، بينما رفض عبود الزمر في تصريح صحفي له الرواية الأمنية واتهمهم بقتله. وكان البلتاجي من أصدقاء الزمر في السجن.
وبعد افتتاح سجن الواحات الجديد (الوادي الجديد) بشهر واحد (افتتح للسياسيين في فبراير 1995م) لقي ستة معتقلين مصرعهم في عنبر التأديب بالسجن وكان أحدهم المعتقل الإسلامي عادل طه الذي قيل أن أحد ضباط السجن (م.ع) كان قد توعده قبيل نقله لسجن الواحات بيوم وتراوحت روايات السجن بشأن هؤلاء الستة وغيرهم ممن لقوا حتفهم بسجن الواحات وغيره من السجون الجديدة التي بنيت كلها في الصحراء بين الانتحار أو الموت بأمراض، ولم تكن أجواء الأعمال المسلحة للجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وقتها ضد رموز الحكم والسياح تسمح لأحد بأن يتظاهر أو يتسائل كما حدث أيام سليمان خاطر لكن تمت عدة إجراءات تشير لعدم رضا جانب من الأجهزة الأمنية نفسها عن ما حدث إذ أمرت نيابة الواحات بغلق عنبر التأديب بالسجن، وحتى عندما أعيد افتتاحه بعد عدة شهور لم تسمح إدارة السجن بوضع السياسين فيه وظلت على هذا الحال لأكثر من عام، ومن ناحية أخرى قامت الإدارة العامة للسجون بنقل مدير منطقة السجون التابع لها السجن وكان برتبة لواء ووضعت مكانه لواء جديد.
وفي عام 2005م أعلنت أجهزة الأمن أن أشرف سعيد قد انتحر في زنزانته بضرب رأسه في جدران الزنزانة حتى توفى وكان أشرف سعيد قد اعتقل على خلفية علاقته بمن قاموا بتفجير الأزهر وعبد المنعم رياض في نفس العام، ولم يقبل زملاء أشرف في السجن رواية إدارة السجن كما لم تتراجع إدارة السجن عن تأكيدها بأنه انتحر كأي منتحر.
وهكذا تظل روايات انتحار المعتقلين والمسجونين السياسيين في السجن معلقة بين رواية رسمية تؤكد الانتحار ورواية غير رسمية تتهم إدارة السجن باغتيال المسجون أو المعتقل السياسي، وتظل هذه القضية مظلومة ليس بسبب الخلاف حولها وعدم القطع فيها برأي يستريح له الرأي العام والتاريخ؛ بل أيضًا بسبب أن أيًا من منظمات حقوق الإنسان الذين تعج بهم البلاد لم تسعَ لتوثيق هذه الحالات وبحثها و إعلان نتائج موضوعية بشأنها.