هل نحن ظالمون؟

أيمن الشعبان

فالظلم بابه واسع ومرتعه خطير

  • التصنيفات: موضوعات متنوعة -

الحمد لله الحكم العدل القدير، السميع البصير، الذي خلق كل شيء فأحسن التقدير، والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

كثيرًا ما نسمع آيات تزلزل القلوب وتقشعر لها الأبدان، فتذهب بنا الخواطر والأذهان، مبتعدين عن التأمل والتدبر، أو التمعن والتفكر، وكأنها لا تعنينا بل تعني غيرنا فحسب؛ من الجبابرة والقياصرة والمتكبرين المتجبرين، من العتاة المجرمين والطغاة الظالمين، من ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [1]، فهذه الآية وما بعدها من آيات غالبنا يحفظها، وكثيرًا ما نرددها ونسمعها، لكن هل وقفنا وقوف المحاسب لنفسه المراجع لحاله!

لا شك ولا ريب أن كل جبار ومستبد وطاغية ومتجبر، تنطبق عليه هذه الآيات المحذرة من الظلم وعقوبته ومآلاته وخطورته وبشاعته، لكن هل نحن بمنأى عن هذه الآيات؟! وهل الظلم متحقق بفئة قليلة دون غيرها؟! أم أننا أيضا قد نقع في الظلم؟

والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، والجور ومجاوزة الحد والميل عن القصد[2].

الظلم اسم تبغضه النفوس، وتستنكف من نطقه الألسن، وتنزعج من سماعه الآذان، فهو خُلق قبيح ومرتعه وخيم، ومآله خطير وعاقبته سيئة ونهايته مفجعة، ولا يقبله عقل أو دين، والظلم وصف لا تحبه أدنى العقول، حتى الظالم لا يرضى الاتصاف به!

والظلم حفرة قعرها عميق، وطريق شائك بعيد ما سلكه أحد فسلم، (وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب، لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر، فإذا سعى المتقون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلماتُ الظلمِ الظالمَ، حيث لا يغني عنه ظلمه شيئًا)[3].

ولكمال عدله سبحانه، وشناعة الظلم وبشاعته، حرمه على نفسه أولا وجعله بين سائر البشر محرما، يقول ربنا سبحانه في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» [4].

يقول عليه الصلاة والسلام محذرًا من عقوبة الظلم: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» [5]، وهذا خطاب عام لكل العباد بضرورة اجتناب الظلم مهما كان حجمه وصنفه أو زمانه ومكانه.

وفي وصية سلمان الفارسي لجرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال له: هل تدري ما ظلمة النار يوم القيامة؟ قال: لا، قال سلمان: ظلم الناس بعضهم بعضا في الأرض[6].

قال بعض الحكماء: "ليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة، أو تعجيل نقمة من إقامة ظالم على نفسه"!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة وعاقبة العدل كريمة ولهذا يًروى: الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" [7].

لنقف مع أنفسنا وقفات صادقة، فيها نكران للذات ومحاسبة النفس ومخالفة الهوى، ثم نزن الأمور بميزان الشرع والدين لا العاطفة والتعالي، على أن ننظر بتأمل وعمق لسلوكياتنا وتصرفاتنا، بل عقيدتنا وعبادتنا، ونطرح السؤال التالي: هل نحن ظالمون؟!!

يقول ربنا سبحانه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [8]، فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟! وهل أعظم ظلمًا ممن خلقه اللّه لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة -فجعلها في أخس المراتب- جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئًا، فظلم نفسه ظلمًا كبيرًا[9].

وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [10]، فكم ممن ينتسب إلى القبلة والإسلام؛ يصرف عبادته ونذره ودعاءه والتجاءه لغير الله؟! وكم من المسلمين من يحلف بغير الله ويعظم غير الله، بل يستغيث ويتوسل ويستعيذ بمخلوقين أو أضرحة وأموات؟! فهل عرفنا حقيقة الظلم الذي وقع به هؤلاء!

لقد ابتلى الله سبحانه آدم عليه السلام وزوجه بعدم الاقتراب من الشجرة وإلا كانا من الظالمين: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [11]، ونهاهما عن الأكل من شجرة معيّنة، ويكون الأكل منها ظلما لأنفسهما، وتجاوزا لأمر اللّه ومخالفة نهيه[12]، فكم ارتكبنا نواهي واقترفنا محرمات، فهل حاسبنا أنفسنا على هذا الظلم؟!

من مظاهر الظلم التي وقع بها كثير من المسلمين؛ التشبه باليهود والنصارى ومداهنتهم ومجاملتهم على حساب الدين واتخاذهم أولياء ومظاهرتهم على المسلمين، ومشاركتهم أعيادهم الخاصة بهم، وتتبع عاداتهم وتقاليدهم ومأكلهم وملبسهم بل وصل بالبعض تقليد مشيتهم وطريقة كلامهم! وربنا عز وجل يقول: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ إِنَّكَ إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [13]، ولئن اتبعت أهواءهم في شأن القبلة وغيرها بعد ما جاءك من العلم بأنك على الحق وهم على الباطل، إنك حينئذ لمن الظالمين لأنفسهم. وهذا خطاب لجميع الأمة وهو تهديد ووعيد لمن يتبع أهواء المخالفين لشريعة الإسلام[14].

وصف الله سبحانه مَن تقاعس عن القتال ولم ينصر المسلمين المستضعفين وخذلهم بأنه وقع في الظلم، قال تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [15]، ألا ترون إلى الخذلان الحاصل لأهل السنة والفلسطينيين في العراق؟! أم أن أعينكم لا ترى ما حلّ بأهلنا في سوريا وبورما وغيرها من بلاد المسلمين؟!

القتل كبيرة من كبائر الذنوب والقاتل ظالم آثم، قال تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [16]، فكم استهان الناس بقضية الدماء حتى عم الهرج وانعدم الأمان في كثير من بلاد المسلمين.

كم مسجد في العراق وسوريا هُدّم وحُرّق وخُرّب ودُمِّر، وإمام وخطيب قتل أو اعتقل أو هُجّر؟! وربنا سبحانه يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [17]، فالخراب الحسي: هدمها وتخريبها، وتقذيرها، والخراب المعنوي: منع الذاكرين لاسم الله فيها، وهذا عام، لكل من اتصف بهذه الصفة[18].

كثير من المسلمين هذه الأيام تنصحهم تحدثهم عن محاذير ومخالفات يقعون بها، تقول له قال الله سبحانه وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، فيقول: الظروف تغيرت، والتطور والبيئة والأحوال تبدلت، والضرورة تبيح لنا ذلك. ولا بد من تقديم صورة حسنة عن الإسلام وعدم تنفير الآخرين -كلمات حق يراد بها باطل- وغيرها من المعاذير والمبررات الواهية، وربنا عز وجل يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [19]، ليس هناك أحد أظلم ممن أعرض عن آيات الله، بعد الوقوف عليها بالتذكير، وينسى ويطرح كبائره ومعاصيه التي أسلفها، وهذا غاية الإهمال[20].

كَثُرت حالات الطلاق وبشكل مخيف لدى المسلمين، نتيجة ابتعادهم عن الأحكام الشرعية والقواعد المرعية وطريقة التعاطي والتعامل في الحياة الزوجية، وكيفية مواجهة أي من المشكلات العائلية، حتى تفشت حالات الإعضال والإضرار بالنساء، وعدم إعطائهن حقوقهن من النفقة وغيرها، وهذا من الظلم الذي حذرنا الله عز وجل منه إذ يقول: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [21]، في الدنيا بسلوك طرق الشر والاعتداء التي لا راحة لضمير صاحبها، ويجعل المرأة وعصبتها أعداء له يناصبونه ويناوئونه، والعدو القريب أقدر على الإيذاء من العدو البعيد. وبتنفير الناس منه حتى يوشك ألا يصاهره أحد، وظلم نفسه في الأخرى أيضا بما خالف أمر الله وتعرض لسخطه[22].

من مظاهر الظلم أكل أموال اليتامي، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، فكم من أموال وحقوق ضُيعت، حتى أصبح البعض يتاجر باسم الأيتام ويتكسب من ذلك!

ينبغي التفكر والتأمل، في مآلات الأحوال والنظر في العقوبات تترى على مجتمعاتنا، من تسلط الأعداء والضعف والهوان وانعدام الأمن والأمان، فقر، جوع، تشريد، تهجير، أزمات اقتصادية اجتماعية سياسة ثقافية، فهل من متعظ ؟! وربنا يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [23]، وأساس هذا الانحدار والخراب في المجتمعات هو الظلم، ولنا عبرة في الأمم قبلنا كيف دمر الله عليهم: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [24]، وفي هذه الآية على ما قيل دلالة على الظلم يكون سببًا لخراب الدور[25].

لذلك عندما كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: أما بعد، فإن مدينتنا قد خربت، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالًا نرممها به، فأجاب: أما بعد، فقد فهمت كتابك، وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصِّنها بالعدل، ونَقِّ طرقها من الظلم، فإنَّه مرمَّتها والسلام[26].

الظلم بجميع أشكاله وألوانه يذهب بالحسنات يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: «اتقوا الظلم ما استطعتم فإن العبد يجيء بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستنجيه فما زال عبد يقول يا رب ظلمني عبدك مظلمة فيقول: امحوا من حسناته وما يزال كذلك حتى ما يبقى له حسنة من الذنوب» [27].

 

أما والله إن الظلم لؤم *** وما زال المسيء هو الظلوم

إلى ديان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصوم

ستعلم في الحساب إذا التقينا *** غداً عند الإله من الملوم

 

المماطلة في قضاء الدين من أنواع الظلم الذي قد يقع فيه بعض القادرين على سداده، حتى وصل بمن يستدين بنية عدم السداد أصلا ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقول عليه الصلاة والسلام: «مطل الغني ظلم» [28].

أحوال ومظاهر الظلم باتت مرض خطير وداء فتاك متفشي بين كثير من المسلمين، فأكل للأموال بالباطل وغش وخداع وسوء أدب وتضييع للفرائض وخذلان للمستضعفين وغيرها، وقد حذر عليه الصلاة والسلام من خطورة ذلك إذ يقول: «الظلم ثلاثة، فظلم لا يتركه الله، وظلم يغفر، وظلم لا يغفر، فأما الظلم الذي لا يغفر، فالشرك لا يغفره الله، وأما الظلم الذي يغفر، فظلم العبد فيما بينه وبين ربه، وأما الظلم الذي لا يترك، فظلم العباد، فيقتص الله بعضهم من بعض» [29].

حتى أن البعض ذهب في وقوع الظلم لأبعد مما قد نتصوره، قال بعض الحكماء: "رجلان ظالمان يأخذان غير حقهما: رجل وُسِّع له في مجلس ضَيِّقٍ فتربع وتفتّح، ورجل أهديت له نصيحة فجعلها ذَنبا"[30]

فالظلم بابه واسع ومرتعه خطير، ولما كان القصد والحكمة من خلق البشر هي عبادته سبحانه، فمتى ما حصل نقص أو تقصير في الطاعات، أو ارتكاب المحرمات فقد ظلم نفسه بحسب هذا النقص، وكذلك تجاوز الحدود بين العبد وربه أو الآخرين يكون ظلما بحسب طبيعة ونوع التجاوز.

وحتى نجيب على ما بدأنا به (هل نحن ظالمون؟!) علينا أن نحاسب أنفسنا كلٌ بحسب سلوكه وتصرفاته مع ربه ونفسه والآخرين، وربنا سبحانه يقول: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ} [31]، ثم الظلم الواقع على الناس يجمعه قوله عليه الصلاة والسلام: «فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ» [32]، وينبغي أن يردعنا جميعا.

اللهم إنا نعوذ بك من الظلم وأهله، ونعوذ بك أن نَظلِم أو نُظلَم.

------------------------------------------

[1] إبراهيم:42.

[2] الموسوعة الفقهية (29/169).

[3] فتح الباري( 5/100).

[4] صحيح مسلم.

[5] صحيح مسلم.

[6] التواضع والخمول، ابن أبي الدنيا، ص105.

[7] مجموع الفتاوى( 28/63).

[8] لقمان:13.

[9] تفسير السعدي.

[10] يونس:106.

[11] البقرة:35.

[12] التفسير الوسيط للزحيلي.

[13] البقرة:145.

[14] التفسير الميسر.

[15] آل عمران:140.

[16] المائدة:29.

[17] البقرة:114.

[18] تفسير السعدي.

[19] الكهف:57.

[20] التفسير الوسيط.

[21] البقرة:231.

[22] تفسير المنار.

[23] الشورى:30.

[24] النمل:52.

[25] تفسير الآلوسي.

[26] عمر بن عبد العزيز، علي الصلابي.

[27] صحيح الترغيب برقم 2221.

[28] متفق عليه.

[29] السلسلة الصحيحة برقم 1927.

[30] بهجة المجالس، ابن عبد البر(1/47).

[31] القيامة:14.

[32] متفق عليه.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام