الخرافة جزء من حياة البعض

خالد سعد النجار

والخرافة تكاد لا تخلو منها كافة المجتمعات البشرية على مر عصورها وتنوع ثقافاتها حتى طالت طرفًا من المتعلمين وكثرة من الجاهلين؛ فبيئة الجهل هي أخصب عش تبيض فيه الخرافة وتفرخ.

  • التصنيفات: موضوعات متنوعة -

(أم شراطيط) شجرة مميزة على جنب طريق (راشيا القديمة) بلبنان، يعتبرها سكان المنطقة شجرة مباركة حيث استظلّها الكثيرون من جميع الطوائف، لا سيما (الشيخ الفاضل)، وانعقدت تحتها الاجتماعات التي أنهت الكثير من الخلافات.

كان أغلبية سكان المنطقة عندما يهاجرون إلى الخارج يمرّون قبل الرحيل على هذه الشجرة، ويعمدون إلى اقتطاع قطعة قماش من ثيابهم ويربطونها بأغصان تلك الشجرة، ويقولون أنهم سيرجعون، وغالبًا ما كانت تأتي الأمهات وتنظرن «الشراطيط» وتتذكرن أبناءهن.

السكان بدورهم يقصدونها حاملين نذورهم، إما لشفاء المرضى أو لعودة المهاجرين، وإما لمن يردن الزواج أو إنجاب الأطفال. ويشير مدير مركز الشؤون الاجتماعية في راشيا (منير مهنا) إلى أنهم يشعرون برابط روحي يشدّهم إلى هذه الشجرة، ويطلبون عبر بركة (الشيخ الفاضل) أن تحمي أهلهم، وبالتالي علاقتهم بها هي علاقة إيمان وفطرة على حسب قوله.

ويقول (الشيخ سهيل القضماني): "(أم شراطيط) هي شجرة سنديان عمرها أكثر من 500 سنة، ولا زالت تقاليدها موجودة حتى اليوم. وأضاف أن الشجرة كانت تلفت انتباه الكثير من المارين بسبب حجمها الكبير، كما كانت تستعمل كخزنة، فإذا اتفق اثنان على ترك غرض لهما في مكان ما، كانوا يضعونها تحتها كونها أكثر من يحافظ عليه. وأشار إلى أن النذور موجودة عند جميع الطوائف، وبالتالي يقصدها الجميع، إضافة إلى أن السكان يشعرون أنها تحميهم ولا يتجرّأ أحد على قطع غصن منها.

هذا الخبر يذكرنا بقصة الخرافة عند العرب حيث تزعم العرب أن رجلا من بنى عذره يسمى (خرافة) غاب عن أهله زمانًا، ولما رجع أخبرهم أنه عاش مع الجن، وكان يحدِّث بأحاديث مما رأى يعجب منها الناس، ولكنهم كذبوه، وصار مضرب المثل، وصاروا يقولون لكل حديث لا يمكن تصديقه: (حديث خرافة). ويطلق على كبير السن عندما يشتد به الكبر ويتأثر عقله بأنه (شيخ خرف) أي يهذى في القول، ولا يصح أن يؤخذ كلامه على محمل الجد.

والخرافة تكاد لا تخلو منها كافة المجتمعات البشرية على مر عصورها وتنوع ثقافاتها حتى طالت طرفًا من المتعلمين وكثرة من الجاهلين؛ فبيئة الجهل هي أخصب عش تبيض فيه الخرافة وتفرخ.

والغريب في الخرافات أنها تخللت حياة البشر كلها من أيامهم وأغراضهم وبيئتهم وأرضهم وسمائهم وشخوصهم، وتعلقت بمشاعرهم وأحوالهم من التفاؤل والتشاؤم والرزق والإنجاب والحل والترحال حتى النوم والموت والبعث.

وما انتشرت الخرافات في أمة إلا كانت نذير شؤمها ودليل جهلها وعلامة سقوطها، فالخرافة قرين الفاحشة، وكلتاهما معول هدم الحضارات وتهاوي الممالك والإمبراطوريات، غير أن الفاحشة تؤجج الشهوات والخرافة تؤجج الخزعبلات وتغيب المعقولات.

والخرافة لا تستند إلى نقل صحيح أو رأي حصيف (غير قابلة للتبرير). فهي أشبه بالشجرة العظيمة التي لا جذور لها راسخة، فهي على كبرها وضخامتها ما أسهل تهاويها أمام واقعها، لذلك عرفوا الخرافة بأنها ما يستملح من الكذب، فالخرافة لا تخلو من التشويق والتهويل وهذا سر سرعة انتشارها، كما أنها عارية من الدليل النقلي أو العقلي وهذا سر تنوعها وتعددها لأنها محض كلام مرسل لا تعوزه مشقة استجلاب الدلائل. ومن سمات الخرافة أيضًا الافتقار للموضوعية، وكذلك احتماء بعضها وراء المفاهيم الدينية والعقائدية وتسترها خلفها لما للدين سلطان على القلوب ووقع في النفوس.

والخرافة تختلف عن الشائعة؛ فالشائعات تنفجر لتفسير موقف غامض وسرعان ما تختفي بظهور الأسباب الحقيقية واتضاح الرؤية، المشيع غالبًا ما يتعمد إصدار شائعته لخدمة أغراض معينة يعلم أنها باطلة، أما الخرافة فهي تفسير لظاهرة مستمرة يتكرر حدوثها في حياة الناس.

والعقل وحده ليس معيارًا للحكم على مصداقية الخبر من تهاويه، وإلا فالغيبيات المدعومة بأخبار الوحي الصحيحة لا مجال للعقل في الحكم عليها، لأنها خروج عن نواميس الحياة الطبيعة، كعذاب القبر والصراط والجنة والنار والميزان وغيرها.

بل ربما كان الفارق بين الخرافة والحق شعرة، كالفرق بين التفاؤل والتشاؤم مثلا.. فلقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوي ولا طيرة، ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة».

والتطير: هو التشاؤم سواء كان بيوم معين أو شخص معين أو حدث معين.

ومن صور التشاؤم: التشاؤم بكثرة الضحك، التشاؤم من ذكر كلمة الموت، التشاؤم من اللون الأسود، التشاؤم من صوت البومة أو الغراب أو الحدأة وطنين الأذن، ورفيف العين، وأكلان اليد وتنميل القدم.

والتشاؤم ينافي كمال التوحيد الواجب لكونه من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، وذلك بتعلق القلب به خوفًا وطعمًا، ومنافاته للتوكل علي الله الذي لا ينفع ولا يصده غيره.

وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويعجبني الفأل» يقول الإمام النووي رحمه الله: "ومن أمثال التفاؤل أن يكون له مريض فيتفاءل بما يسمعه فيسمع من يقول: يا سالم أو يكون طالب حاجة فيسمع من يقول: يا واجد، فيقع في قلبه رجاء البرء أو الوجدان.. والله أعلم".

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الفَأْل، لأن الفَأْل حسن ظن بالله سبحانه وتعالى، أما الطِّيَرة فهي سوء الظن بالله. فالفأل تأميل بالخير وانشراح بالصدر وتنشيط للعزم، والتشاؤم تأميل بالشر، وضيق بالصدر وتفتير للعزم.

هذا مع جزم اعتقاد المتفائل بأن الأمور كلها بيد الله، فلأبي داود بسند صحيح عن عُقبة بن عامر، قال: ذُكِرَتِ الطّيَرَةُ عِنْدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أحْسَنُهَا الْفَأْلُ، وَلاَ تَرُدّ مُسْلِماً، فَإذا رَأَى أحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ اللّهُمّ لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلاّ أنْتَ وَلاَ يَدْفَعُ السّيّئَاتِ إلاّ أنْتَ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوّةَ إلاّ بِكَ».

 

فراسة لا خرافة

فراسة الصالحين كالصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين هي أصدق أنواع الفراسة، وأصلها من الحياة والنور الذي يهبه الله تعالى لمن يشاء من عباده، فيحيا القلب بذلك ويستنير، فلا تكاد فراسته تخطئ.

قال أبو الفوارس الكرماني: "من غضَّ بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمَّر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعوَّد نفسه أكل الحلال لم تخطئ له فراسة".

قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].

وللفراسة موردان (الأول): جودة ذهن المتفرس وحدة قلبه وحسن فطنته.

(والثاني): ظهور العلامات والأدلَّة على المتفرّس فيه؛ فإذا اجتمع السببان لم تكد تخطيء للعبد فراسة، وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة، وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر: كانت فراسته مضطربة.

كان عمر رضي الله عنه إذا حدثه الرجل بالحديث فيكذب فيه الكلمة والكلمتين، يقول له عمر: "احبس هذه؛ احبس هذه"، فيقول الرجل: والله كل ما حدثتك به حق، غير ما أمرتني أن أحبسه.

وعن ابن عمر قال: بينما عمر رضى الله عنه جالس إذ رأى رجلاً فقال: قد كنت مرة ذات فراسة وليس لي رأي إن لم يكن هذا الرجل ينظر ويقول في الكهانة شيئًا. ادعوه لي. فدعوه فقال: هل كنت تنظر وتقول في الكهانة شيئًا؟! قال: نعم.

وروى الطبري أنَّ عمر رضي الله عنه لما استعرض الجيوش للجهاد سنة 14 هـ مرت أمامه قبائل السكون اليمنية مع أول كندة يتقدمهم حصين بن نمير السكوني ومعاوية بن حديج أحد الصحابة الذين فتحوا مصر ثم كان أحد ولاتها، فاعترضهم عمر، فإذا فيهم فتية دلم سباط، فأعرض عنهم ثم أعرض ثم أعرض، حتى قيل له: ما لك ولهؤلاء؟ فقال: إني عنهم لمتردد، وما مر بي قوم من العرب أكره إليَّ منهم. فكان منهم سودان بن حمران وخالد بن ملجم وكلاهما من البغاة على عثمان.

قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]، قال مجاهد: المتفرسين.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام