من أراد المصلحة فلينظر من وراء الشرع
مدحت القصراوي
واعلم أن المجاهد أبصر بالحق من القاعد، فإن الحق ينقدح جليًا في قلبه، والقلوب تجلو مع الثبات، وليحذر امرؤ من معصية تخذله في موقف يحتاج فيه إلى رؤية الحق والثبات عليه
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
كثر الكلام عن مصطلح (المصلحة)، وتصدّر هذا العنوان ليخبئ تحته مشاريع هدم للإسلام، وخذلان لرايته، واتفاقات ومؤامرات مع العدو على تمرير مخططاته المحلية، والإقليمة عربيًا وصهيونيًا ودوليًا لسيطرة الغرب والمشاريع الأمريكية والأوروبية في سياقها على حساب هوية الأمة ودينها وحريتها وإرادتها.
أخذت هذه القوى المنتسبة للتيار الإسلامي، تتعلل لتمرير هدم قواعد الدين وحرب أهله وإذلال المسلمين، بمصطلح (المصلحة)، وبهذه الحجة أُسقطت الراية ونُحيت القوة الإسلامية المتقدمة للمشروع الإسلامي، وتحت هذا الغطاء قتل الآلاف واعتقل الآلاف وأصيب الآلاف، ويمهد الآن للمزيد ذبحًا وسجنًا وإهانة. وتحت غطاء (المصلحة) هُتكت أعراض المسلمات، وكذب فريق من (الإسلاميين!!) وسكت آخرون، ليمر كل ما أراد أعداء هذا الدين، لتبقى بعض اللحى أو بعض الدروس فيما يمثل مصالح جزئية أو فردية ساقطة التأثير والاعتبار الشرعي في مقابل ما أسقطوه من أصل المشروع الإسلامي، الضخم المدى والتأثير، لكنها العقلية الجزئية السطحية التي ورثت عن سابقيهم الاهتمام بنجاسة دم البعوضة على دم سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها القلوب والمواقف المدخولة والخاوية من الاعتصام بالله والباحثة عن قوى بشرية ومعسكرات ظاهرة للاحتماء بها.
ومع هذا فقد ينخدع البعض بكلمة (المصلحة) خاصة إذا قال قائلهم (مصلحة شرعية)، فأضاف المصلحة إلى الشرع بجرأة، ثم يرى الناظر، من بعض محسني الظن بهم، مواجهات يضحي فيها المؤمنون ما بين شهيد وجريح أو معتقل، فيظن صدق رؤية (أرباب المصلحة) وأن هذه التضحية هي انتحار ومواقف غير شرعية!! وأن المصلحة تقتضي التسليم لمن نجح في مؤامرته، ويرى أن هذا كلام علماء! وأن خذلان الدين اليوم هو أمر شرعي لا بد من اعتباره!! وهكذا قلبوا الأمور.
ولذا ننقل عن بعض أهل العلم بعض كلامهم لإلقاء الضوء على بعض قواعد اعتبار المصلحة كخطوط عامة فقط، فللموضوع دراساته الشرعية في محلها؛ لكننا نجمل هنا بعض القواعد لعموم النفع بإذن الله تعالى:
(1) ما شرعه الله تعالى وكلف به خلقه لم يشرعه ليستكثر به من قلة أو يتقوى به من ضعف أو يعز به من ذلة، بل ما شرع الله تعالى لعباده إنما شرعه لتحصيل العباد لمصالحهم، لحاجتهم إليه تعالى وإلى ما شرع، فالخلق محتاجون إلى الله تعالى من جهة الربوبية؛ خلقًا ورزقًا وإصلاحًا، ومن جهة الألوهية؛ طاعة ومحبة وتعظيمًا وانقيادًا.
(2) أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح على أتم وجه وأجمعه، كما جاءت بتحصيل المصالح على استقامة بحيث لا تفوّت مصلحةٌ مصلحةً أخرى.
(3) أن الشريعة اعتبرت في هذا، لا المصالح الفردية فقط، بل المصالح العامة كذلك، فاعتبرت المصالح مع ما يضمن لها الاطراد والعموم، بحيث إذا اطردت أو عُممت جرت على استقامة.
(4) أن الشريعة اعتبرت مصالح الفرد بما لا يضر الجماعة، وقدمت المصلحة العامة مع اعتبار مصلحة الفرد في ضمنها.
(5) أن المصالح المعتبرة في الشريعة هي ما كانت في طريق الآخرة، حيث جاءت الشريعة لتحصيل مصالح الدارين، لأن الدنيا جُعلت في طريق الآخرة {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النساء:134]، فكانت الشرائع لتحصيل مصالح الدنيا وتجنب مفاسدها، ولتحصيل مصالح الآخرة فمصالحها أعظم، ولتجنب مشقاتها فمشقاتها أعظم.
(6) ولهذا فالمصالح المعتبرة شرعًا هي ما كانت طريقًا لاستقامة الدنيا من حيث هي موصلة للآخرة، وليس ما اعتبره أي فرد مصلحة. فما اعتبره الزاني من مصلحة اللذة، وما اعتبره المرابي من مصلحة زيادة المال، وما اعتبره اللص من مصلحة الحصول على مال الغير، هذه كلها مصالح مهدرة وغير معتبرة، كما أنها إذا اطردت أو عممت فحشت واضطربت معها الحياة في الدارين.
(7) أن الخلق لا يستقلّون بمعرفة المصالح، وإلا لما احتاجوا للرسالات، وبالنظر إلى أهل الفترات يُعلم أنهم إن حصّلوا مصلحة أضاعوا أخرى وفوتوا الكثير، وسارت أمورهم على اضطراب، ومن المثال على هذا أنهم اعتبروا عبادة الأصنام وممارسة التشريع والتحليل والتحريم من دون الله ووأد البنات والربا والزنا وظلم الناس مصالح، ولم يقرهم الشرع على هذا.
(8) ومجمل هذا أن الأحكام الشرعية تضمنت المصالح على أكمل وجه وأتمه، بحيث ضمنت للعبد مصالحه في الدارين، واعتبرت مصالحه في مراتبها الثلاث، كما اعتبرت المصالح العامة والخاصة، على وجه وإن قدم فيه اعتبار المصلحة العامة فلم تهدر المصلحة الخاصة.
(9) أن المعتمد في معرفة وجه المصالح هو الشرع، وليس العقل استقلالًا، وأن الأحكام وتقرير وجه المصالح تُعرف إما عن طريق النص الجزئي المباشر، أو النص العام، أو ما استقرئ من النصوص حتى صار قاعدة، وصار كالمنصوص عليه.
(10) أن الاعتصام بالنص هو الأمان وضمان المصالح، حتى لو لم يتضح وجه المصلحة في أمر ما فالالتزام بالنص يضمن للعبد تحصيل المصالح على اليقين في الدارين.
(11) لاعتبار أي مصلحة فلا بد لها من شرط ألا ينص الشارع على إلغاء اعتبارها، كما يجب ألا تصادم نصًا أو قاعدةً شرعية، ولا يكفي عدم المصادمة بل لا بد أن يشهد لها الشرع بالاعتبار، إما لنوعها وإما لجنسها.
(12) وعلى هذا فلو سكت الشرع عن اعتبار مصلحة أو إلغائها، فلا تعتبر، لأنها اتهام للشرع بإهمال مصالح العباد، قال الغزالي: "لا يتصور أن توجد واقعة مسكوت عنها في الشرع، لأن هذا يتضمن أن الله قد ترك الناس سدى وأن الدين لم يكمل والنعمة لم تتم، وهذا خلاف ما أخبر به الشارع سبحانه وتعالى".
(13) وعلى هذا فما صادم نصوص الشرع أو قواعده، فليس بمعتبر، وما كان مقتضاه قائمًا وقت التشريع وسكت عنه الشارع، علم أن اعتبارها ملغي، فالمشقات لم تعتبر في سبيل العقيدة خاصة إذا كان وجود أو قيام الدين منوطًا بهذا الصبر، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم آل ياسر بالصبر، وكما أمر خباب بالثبات، وكما عاب القرآن عمن تراجع وجعل فتنة الناس كعذاب الله وقرر أن الابتلاء مقدرٌ بقصد التمييز بين الصادق والكاذب، فلم تعتبر هنا مصلحة الحفاظ على السلامة الفردية بالرجوع عن الثبات على أمر الدين.
(14) أن الشريعة راعت المصالح في مراتبها الثلاث:
- المصالح الضرورية (وهي التي لا بد منها لقيام الحياة ووجودها والحفاظ عليها).
- والمصالح الحاجية (وهي ما يضمن رفع الحرج ويضمن التيسير).
- والمصالح التحسينية (وهي ما يشمل رفاهة الحياة وزينتها، ويشمل مكارم الشيم ومحاسن الأخلاق).
(15) أن رعاية المصالح ليست على وزان واحد بل مراعاة الضروري مقدم على الحاجي، والحاجي مقدم على التحسيني، وهذا لا ينفي مراعاة الحاجي في الضروري إذا اشتدت الحاجة اليه.
(16) المقصود بالضروري هو الضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، وهي ليست على درجة واحدة داخل نفس المرتبة، فالدين مقدم على النفس، ولهذا شرع الجهاد، وقد يتضمن إتلاف النفوس، من أجل الحفاظ على الدين، كما أن الحفاظ على النفس مقدم على العقل ولهذا جاز أن يتناول المضطر الخمر إذا خاف الهلاك.. وهكذا.
(17) لم يترك الشرع للعقول الاستقلال بالنظر في المصالح ولو ترك لها هذا لما كان التكليف والنصوص، ولسارت أمور الناس في أزمنة الفترات والبعد عن الرسالات على استقامة، ولكن هذا لم يكن، و"ما من مملكة قائمة في الأرض إلا وهي قائمة على رسالة أو على آثار رسالة" (ابن تيمية)، حتى لو أنكروا هذا، فـ"كما أن العقل ليس بمستقل بالنظر بل يكون تابعًا للدليل الشرعي، فالشرع والدليل هو المتبوع، والعقل تابع، لايسرح الا بقدر ما يسرحه الدليل وهو ناظر من وراء الشرع، ولذا عندما يستعمل مع الأدلة الشرعية فيكون مركبا بشرط التأخر، لا مستقلا بالنظر" (الشاطبي).
(18) جاءت الشريعة أيضًا برفع الحرج، وما فيه مشقة أو حرج زائد، وفي ضمن هذا المعنى ما جاءت به الشريعة من رفع الإصر والأغلال التي كانت على الأمم قبلنا.
(19) وعلى هذا فالشريعة جاءت لتحصيل المصالح، ولم تقصد إلى المشقات أو الإعنات.
(20) ما حصل من المشقات فليس بمقصود للشارع في نفسه، ولكن المقصود هو المصلحة المضمنة في العمل وإن جاءت المشقة فبالتبع.
(21) هذه المشقات إنما جاءت على ما جرى به هذا العالم من احتمال مشقات معتادة لتحصيل المعاش والكد في الحياة حتى أن العقلاء لا ينكرونه بل يرونه لازمًا للحياة، وإلا كانت حياة أخرى غير هذه الحياة وعالم غير هذا العالم (ابن تيمية وابن القيم رحمهم الله)، ولهذا ترى أنه قد يضحي غير المسلمين بأرواحهم، أو حريتهم لسنين طويلة، في سبيل قضايا وطنية محقة، ويرون هذا مما تقتضيه العقول والمصالح، ومستقبل الأوطان والأجيال.
(22) لا يعني أبدًا اعتبار المصالح ترك العزائم، كما لا يعني رفع الحرج في الشريعة ترك العزائم.
(23) فمع رفع الشريعة للحرج ولما فيه مشقة زائدة عن المعتاد فقد عابت على من ترك الصبر في مواقف الابتلاء وعدتها خيانة وسببًا للهلاك {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، وفتنة الناس تشمل كل ما فعله المشركون مع المسلمين في مكة وغيرها، وما حكاه تعالى عن الأمم قبلنا.
وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، واللام في {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} موطئة للقسَم، فهذا قسَم منه تعالى على سنة الابتلاء.
كما أمر الله تعالى بجهاد الكفار والمنافقين، وأمر بكلمة الحق في وجه السلطان الجائر، ولم يرخص للعلماء كتمان العلم، وإن رخص لغيرهم الأخذ ببعض الرخص في هذا، ونهى عن التولي يوم الزحف، وأمر بالصبر على القعود في بلد فيه الطاعون ونهى عن الخروج منه، فيستشكل البعض مثل هذه التكاليف إذا اطرّد أصلًا واحدًا، بينما ذلك كله جارٍ على استقامة إذا اعتبرت أمور:
(1) أن المصالح ليست على وزن واحد كما تقدم، فالضروريات مقدمة على الحاجيات، والحاجيات مقدمة على التحسينيات. كما أن الضروريات نفسها ليست على وزن واحد. فالدين مقدم على النفس والنفس على العقل، وهكذا كما مر.
(2) كما أن المصالح العامة مقدمة على الخاصة، والخاصة معتبرة بما لا يخل بالمصالح العامة، كما أنها معتبرة من أوجه أخرى.
(3) أن تقييم المواقف لا بد فيه من تدبر العواقب والنظر إلى المآلات، مآلات الواقع إذا استمر واطرد، وما يؤدي إليه من ذل أهل الإسلام وتجفيف منابعه وتسليط عدوهم عليهم وإضعاف الأمة وتكبيل إرادتها وتركيعها لعدوها ومنعها إبداء وفرض إرادتها، والقضاء على هويتها، فعند اطراد الأمر أو تعميمه قد يستقيم فتظهر صحته، أو يفحش فيظهر أو يتأكد خطؤه.
(4) "أن المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة، طرف أعلى بحيث لو زاد شيئًا لخرج عن المعتاد وهذا لا يخرجه عن كونه معتادًا، وطرف أدنى بحيث لو نقص شيئًا لم يكن ثم مشقة تنسب إلى ذلك العمل، وواسطة هي الغالب والأكثر" (الشاطبي).
ومن هنا عيب على من نكث أو نكص، {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، وأمر تعالى بالثبات في مواقف شديدة {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10]، وعندئذ اشرأب النفاق وظهر، وذُكر في هذا السياق وعيب على أهله، بينما أثنى تعالى عمن ثبت وصدق ما عاهد الله عليه، ولو كلفه هذا الصدق والثبات حياته أو ما دونها {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
(24) ولذلك فمن تقسيم جمهور العلماء للمصلحة أنها ثلاثة أقسام:
الأول: مصلحة شهد الأصل الشرعي لنوعها أو جنسها.
الثاني: مصلحة شهد نص شرعي بخلافها.
الثالث: مصلحة لم يشهد الشرع ببطلانها ولا باعتبارها، وهو غير موجود في الشريعة وليس له مثال واقع. (الثبات والشمول لعابد السفياني).
والمعتبرة شرعًا هو النوع الأول من المصالح، وهو ما شهد الشرع لنوعه، كشهادته في المعاملة بنقيض المقصود إذا رام المكلف مخالفة للشرع، أو لجنسها كاعتباره لضروريات حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال.
(25) وقسمها الغزالي إلى أربعة أقسام:
الأول: مصلحة شهد الشارع لنوعها وهي تدخل في باب القياس.
الثاني: مصلحة شهد نص شرعي باعتبار جنسها، وهي الملائمة.
الثالث: مصلحة تناقض نصًا شرعيًا، وهي الباطلة والملغاة.
الرابع: المصلحة المسكوت عنها في الشرع، وهي الغريبة.
وأنكر الغزالي وجود هذا النوع من المصالح، على أساس أنه "لا يتصور أن توجد واقعة مسكوت عنها في الشرع، لأن هذا يتضمن أن الله قد ترك الناس سدى وأن الدين لم يكمل والنعمة لم تتم، وهذا خلاف ما أخبر به الشارع سبحانه وتعالى".
والقسمان الأخيران ملغيا الاعتبار. (الثبات والشمول لعابد السفياني).
(26) تقسيم الشاطبي:
"المناسب ثلاثة أقسام:
الأول: ما شهد له الشرع بالقبول، فمقبول بلا خلاف.
الثاني: ما حكم الشارع برده، فلا قبول له، لأن كونه مناسبًا لا يقتضي حكما بنفسه، وإنما ذلك مذهب أهل التحسين والتقبيح العقليين وهما مردودان، وقد تبين أن العقل ليس بشارع ولا مقبح، وأنه تابع للشرع فلا يتقدم بين يديه.
الثالث: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تعتبره، وهو قسمان:
أ- أن يرد نص على وفق ذلك المعنى، كتعليل منع القتل للميراث، فالمعاملة بنقيض المقصود، على تقدير أن لم يرد نص وفقه، وهو مناسب غريب.
ب- أن يشهد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة دون أن يرد عليه دليل معين، وهو الاستدلال المرسل أو المصلحة المرسلة"ا.هـ. (رسالة فقه المصلحة وتطبيقاتها المعاصرة للدكتور حسين حامد حسان، (الثبات والشمول لعابد السفياني).
فالمعتبر من المصالح هو ما شهد له الشارع بالاعتبار، فأما ما صادم النص أو شهد الشارع بإلغائه أو عدم اعتباره، أو سكت عنه، فوصْف المصلحة وحده غير كاف، لأنه قد يتوهم العقل مصلحة وهي ليست كذلك، أو قد يعتبرها وتكون مرجوحة في مقابل مفسدة أعظم، أو مغمورة بمفاسد، أو مفوتة لمصالح أعظم، أو قد تكون غير مطردة، ولو اطردت لفحش مآلها، ولو عممت لأذلت المسلمين أو ضيعت حقوقهم.
ولهذا كله فالعقل ناظر من وراء الشرع، ولا يسرح إلا فيما سرحه الشرع فيه، ولذا جاءت النصوص محصِلة للمصالح، ولأعظمها إذا تعارضت، وضمنت اطرادها وعمومها، ونفت المفاسد أو أعظمها، مع تقليلها، ولذا فالتقيد بنصوص الشارع وقواعده، ومعرفة مقاصده العظمى، وترتيب المصالح كذلك، أمر ضروري ومهم وحاسم، وضامن للمصالح على يقين واطراد وعموم، وترك التقيد بنصوص الشارع مظنة تفويت المصالح واضطراب الأمور.
فقد ظن المنافقون في ولاء الكافرين مصلحة وكذبهم الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بولاء الكافرين، قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني بين المؤمنين والكافرين {ألَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12]، ولما قال بعض الناس أنه أمِن عندما تجنب ما لاقى المؤمنون في الجهاد قال تعالى: {وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا} [النساء:72] فنفى الله تعالى هذا الميزان ونهى عنه، وكذا فيمن قالوا عند إصابة المؤمنين {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50] فجعل الله تعالى هذا علامة على النفاق.
ولذلك كان لا بد للمصلحة أن ينص عليها الشرع أو يشهد لنوعها أو لجنسها بالاعتبار، ولا تناقض نصوصه ولا قواعده، ولا يكون تحصيل الأمان بتضييع الدين أو خذلانه، ولا يترك صف المؤمنين طلبا لمصالح أفراد، يقول الغزالي (نحن مع المصالح بشرط ألا تهجم على نص الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفع).
فقد تكون المصلحة أن ينفر المسلم في الحرّ كما في تبوك، أو يثبت في موقف إشهاد كصاحب يس ومؤمن آل فرعون، وكما فعل من هو أعظم قدرًا كنوح وهود، أو أن يثبت في الجهاد على القتل كزيد وجفعر وابن رواحة يوم مؤتة، أو كمصعب يوم أحد، أو يصبر على رفض الظلم كسعيد بن جبير، أو يصبر على موقف عقدي وكلمة حق كالإمام أحمد.
فلو ناقضت المصلحة المتوهمة نصًا لم تُعتبر، ولو ناقضت قواعد شرعية لم تعتبر. والحق فيما وافق الشرع لا فيما خالفه، والمصلحة مضمَنة فيما أمر الله تعالى لا في مخالفته، واستقلال النظر عن الشرع وانحلال التقيد به يقرُب بصاحبه من المخالفة كفاحا والمصادمة صراحًا، والاحتجاج بالدين في هذا الإطار يزيد إثم المخالفة ولا يبررها.
فلينظر امرؤ إلى ما يقول تحت عنوان المصلحة، فيبرر ولاء العدو وإسقاط الراية، فيذل المسلمون ويضعف الإسلام ويصادر مستقبل أجيال.
كما يجب أن يحذر الناس زلة المنتمين إلى الدعوة، وليحذر العبد أن يستخدم الشرع غطاء للهوى، أويستعمل آلة الدين للدنيا أو يستعين بنعم الله على معاصيه وبحججه على إبطال دينه. ولا تسل عمن هلك كيف هلك ولكن سل عمن نجا كيف نجا.
واعلم أن المجاهد أبصر بالحق من القاعد، فإن الحق ينقدح جليًا في قلبه، والقلوب تجلو مع الثبات، وليحذر امرؤ من معصية تخذله في موقف يحتاج فيه إلى رؤية الحق والثبات عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29].
(الموافقات للإمام الشاطبي، مجموع الفتاوى لشيخ الاسلام ابن تيمية، مختصر الصواعق المرسلة للإمام ابن القيم، رسالة فقه المصلحة وتطبيقاتها المعاصرة للدكتور حسين حامد حسان، الثبات والشمول للدكتور عابد السفياني).