هل أثرت موعظة لقمان في ابنه؟

الموعظة الحسنة إحدي الوسائل التي أشار القرآن الكريم إلى اتباعها

  • التصنيفات: تربية الأبناء في الإسلام -

لا شك أن تربية الأولاد التربية الصالحة واجبة وكلنا يهدف إليها، فكلنا يسعى لتحقيقها خاصة في ظل المؤثرات والفتن التي يتعرض لها أبناؤنا.

وبعض الآباء يمنع ولده عن المؤثرات بحبسه في البيت، وآخر بالتخويف والردع، وللأسف فإننا لا نجد لتلك الأساليب أي أثر على منع الأبناء من التأثر بالمؤثرات السلبية التي قد ملأت المجتمعات، ونجدنا نميل دائمًا إلى أن نجعل الحل هو تربية أبنائنا التربية الصحيحة على الحق والصواب ونملأ قلوبهم بحب الإيمان وبحب الله سبحانه وبكره الذنب والمعصية، فلا نخاف عليهم إذن مهما تعرضوا لمؤثرات سلبية.

و لذلك كان من حق الولد أن يربي بالطرق الشرعية الصحيحة التي تحفظ عليه شخصيته السوية وترعاه أمام أي مؤثر سلبي.

وسنحاول أن نتتبع أهم الوسائل الإسلامية التي تشرع في تقويم سلوك الأبناء وتوجيههم الوجهة الصحيحة، ونبدأ أول ما نبدأ به (الموعظة) كوسيلة للتربية والتوجيه والتقويم، فقد وجدنا وسيلة الموعظة الحسنة إحدي الوسائل التي أشار القرآن الكريم إلى اتباعها في قوله تعالي: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِ‌كْ بِاللَّـهِ ۖ إِنَّ الشِّرْ‌كَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، إنه دليل على أن من حقوق الأولاد على آبائهم أن يجلسوا معهم للوعظ والإرشاد والتقويم والتعليم والتوجيه، كهذا المجلس الذي جلسه لقمان عليه السلام، فقد جعل الله تعالى ذلك من واجبات الآباء على أبنائهم.
ولم يقتصر هذا الوعظ فقط على الأب بالنسبة لابنه بل إن ذلك الأسلوب القرآني يتبعه كل من الداعية إلى الله مع الناس، والمدرس لتلاميذه، والأخ الكبير لأخيه الأصغر، وهكذا.

بل جعلت تلك الموعظة طريقًا مارسه الرسل صلوات الله عليهم مع أقوامهم حيث قال تعالى آمرًا رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63]، ولقد وصف الله تعالى تلك الموعظة حينما تؤثر في المتلقي الصادق فيستقبلها في صدره وكأنه كان يتمني انتظارها فبمجرد سماعها تكن شفاءً للصدر من جفاء طال في قلبه، وكان ذلك من آثارها الطيبة فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّ‌بِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ‌ وَهُدًى وَرَ‌حْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين} [يونس:57].

فأغلب الأنفس البشرية تكون مستعدة لتقبل المواعظ إذا هي خرجت بشروطها الصحيحة، خصوصًا إذا كانت أنفسًا طيبة نقية لم تتلوث بعد مثل أنفس الأبناء لذلك بمجرد موعظتهم تجدهم يتأثرون تأثيرًا كبيرًا.

فالابن يتعظ وربما تكون تلك الموعظة بالنسبة له مؤقتة، لكنها تترك في قلبه أثرًا، وقد يعود إليها ويتذكرها عندما يقع في شيء يبعده عن ربه، فتجدها له بمثابة جرس الإنذار.

لكن الموعظة كي تؤتي ثمارها لا بد لها من ضوابط :

1- اتباع الصدق في الموعظة: فالابن مثله الأعلى والداه، فإن وجدهما يتبعون الكذب في كلامهم ومعاملتهم فكيف تؤثر فيه موعظة أبويه؟ إنه لن يجعل لهما أذنًا مصغية إلا عندما يتعاهدا بينهما الصدق في الحديث، فبقدر الثقة في الواعظ يكون تأثير الموعظة.

وقد نجد كثيرًا من الأبناء لا يتأثرون لموعظة الأب أو الأم على الرغم أنها لو قيلت من أحد الأصحاب أوأحد الأقارب أو أحد المتحدثين في التلفاز أو غيره قد تؤثر فيهم ويستمعون لها وينتبهون إليها! وإنما سبب ذلك كثرة موعظة الوالدين وضعفها وعدم مواطأتها للوقت المناسب، وعدم شعور الابن عندها برغبة في السماع.

والموعظة قد يتأثر بها الابن عندما يستقبلها من إنسان يُحبه، لذلك يجب على الواعظ قبل أن يقدم النصح والموعظة لمن يريد، عليه أن يترك وقتًا بينه وبين من يريد نصحه يتقرب إليه فيه بكل الطرق الحسنة التي تقرب بينهما فعندما يصل ويتأكد أنه قد وصل لتلك النتيجة فيبدأ بتقديم النصح والموعظة ولتكن لينة رفيقة، لقوله تعالى آمرًا موسى وهارون عليهما السلام: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ‌أَوْ يَخْشَىٰ} [طه:44].

كما ينبغي على الواعظ أن يتحلى بالصبر ولا ييأس لطول الوقت ولا ينتظر ممن ينصحه الاستجابة السريعة لتلك الموعظة، وفي حال الأبناء فطول فترة معايشتهما للأبوين والأسرة هي فترة وعظ ونصح وإرشاد، فيمكن للأبوين تقسيم ذلك بهدوء وبرمجته بنظام.


2- الإقناع وهي محاولة الواعظ سواء كان الوالد أو غيره أن يقنع المتلقي بالقضية التي يطرحها لكي يتقبلها عن رضا لا عن حياء أو ضغط أو مجرد انفعال، فكثير من المحرمات بيّن الله تعالي علل الأحكام فيها وأسبابها ومنافعها ومضارها ليعرض عنها الفاعل عن بينة وقناعة، فالله تعالي يقول في حرمة الخمر والميسر والأنصاب والأزلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ‌ وَالْمَيْسِرُ‌ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِ‌جْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:9]، فبدأ الحكم الشرعي بتلك الأفعال مع تنفير النفس منها باعتبارها رجس.

وهذا الأسلوب الذي استخدمه رسول الله مع ذلك الشاب الذي جاء يستأذنه في الزنا بكل جرأة وصراحة، فهمّ الصحابة رضي الله عنهم ليقعوا به فنهاهم وأدناه وقال له: « أَتُحبُّه لِأُمِّكَ؟» قال: لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك. قال: «ولا الناسُ يُحبونَه لأُمهاتِهم». قال: «أفتُحبُّه لابنتِك؟» قال: لا واللهِ يا رسولَ اللهِ جعلني اللهُ فداءَك. قال: «ولا الناسُ يُحبونَه لبناتِهم». قال: «أفتُحبُّه لأُختِك؟» قال: لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَك. قال: «ولا الناسُ يُحبونَه لأَخَواتِهم». قال: «أَفتُحبُّه لعمَّتِك؟» قال: لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَكَ. قال: «ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لعمَّاتِهم». قال: «أفتُحبُّه لخالتِك؟» قال: لا واللهِ جعلني اللهُ فداءَكَ. قال: «ولا النَّاسُ يحبونَه لخالاتِهم». قال: فوضع يدَه عليه وقال: «اللهمَّ اغفرْ ذنبَه وطهِّرْ قلبَه وحصِّنْ فرْجَهُ» فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفتُ إلى شيءٍ (السلسلة الصحيحة:1/712)، وهكذا صار الزنا أبغض شيء إلي ذلك الشاب فيما بعد بسب هذا الإقناع العقلي الذي جاء بأسلوب طيب هادئ بعيد عن غلظة الحديث.

وسبحان الله تعالى ما حرم سلوكًا ممنوعًا إلا وجعل له في الواقع بديلًا له حلالًا فحين تساعد إنسانًا على ألا يتبع سلوكًا حرامًا فيحسن أن تعطي له أمثلة لأشياء بديلة أحلها الله تعالى له فالزنا في الحرام يقابله العفة في الحلال، والسرقة تبادلها الكسب الحلال، وغيره. قال ابن القيم: "وهذا لا يأتي إلا من عالم ناصح مشفق، قد تاجر مع الله، وعامله بعلمه، فمثاله في العلماء مثال الطبيب العالم الناصح في الأطباء يحمي العليل عما يضره ويصف له ما ينفعه فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان".

 

3- عدم الإلحاح في الموعظة: فتكرارها يتبعه شيء من الملل للابن وكذلك إلقاؤها بأسلوب جاف أو في غير محلها أو طول وقت الموعظة فقد يصيب المستمع بالسآمة والملل وقد يجعل هذا أثر الموعظة ضعيفاً بل قد ينعكس أثرها، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لخبرته بالنفوس يتعهد أصحابه بالنصح والتذكير أيامًا وأياماً ولا يكثر عليهم لئلا يملوا فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صل الله عليه وسلم "كان يحدث حديثاً لو عدّه العادّ لأحصاه" (رواه البخاري). وعن عبد الله ابن مسعود قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا" (رواه البخاري).


4- الموازنة بين الترهيب والتبشير في الموعظة فلا ينبغي أن نظل نتبع أسلوب الترهيب كلما جلسنا لموعظة الأبناء، فالقرآن حادث الذي جاوز الحد في العصيان بأنه ينبغي عليه ألا يقنط من رحمة الله حيث أن الله سبحانه يغفر الذنوب جميعها. وأيضاً لا نتبع المبالغة في التبشير لأن ذلك قد يؤدي إلى الاستهانة بحدود الله سبحانه وإطفاء الخوف والخشية من الله سبحانه.

لذلك كان إلزام المربي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التربية المزج بين هاتين الناحيتين لأن كليهما يخاطب النفس البشرية، فقد قال تعالى على لسان نبيه: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ‌ وَبَشِيرٌ‌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188].


5- البساطة، ونعني بها طريقة إلقاء الموعظة وأسلوبها الذي لا بد أن يقدم بها وهو الأسلوب البسيط الطبيعي البعيد عن التكلف. فتلك أفضل الطرق في توصيل الموعظة وهي التي تبلغ الثمار بسرعة فقد كانت مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم غير متكلفة، ووضح أن التكلف ممقوت في النصيحة، فقد ورد النهي عنه فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مجلساً مِني يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مِني يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون» (رواه الترمذي وقال: حديث حسن)، وقال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‌ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].



6- استغلال المواقف، فقد يستغل الواعظ بعض الأحداث أو المواقف أو بعض العواقب التي تعود على الكثير ممن يسيرون في الطرق الخاطئة بالضرر ويتم حين ذاك الوعظ لأن تجارب الآخرين والصور والمشاهد الحقيقية أمام أولادنا جديرة بأن تكون شاهدًا ومعينًا على الوعظ الناجح وقد يكون لها تأثير فعال.
 

7- استخدام أسلوب التشويق في الوعظ والنصح، لأن النفس البشرية تكره الرتابة وتنفر من المعلومة فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من هديه التمهيد لتعليمه أو لتربيته بما يشوق القلوب لسماعه. فهو أحياناً يطرح المسألة على أصحابه متسائلاً: «أتدرون ما الغيبة؟»، أو «أتدرون من المفلس؟» وهكذا، وكان يلغز لهم أحياناً كأن يقول: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها و إنما مثلها مثل المسلم فأخبروني ما هي؟» (رواه البخاري).

فلا شك أن السؤال مدعاة للتفكير وأيضًا يثير الاشتياق لمعرفة الجواب مما يجعله أكثر رسوخاً في الذهن، وكان صلى الله عليه وسلم ربما يشير بقوله: «أنا وكافل اليتيم كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطي» (رواه البخاري).

وكان صلى الله عليه وسلم يضرب الأمثلة أو يعرض القصة كما قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أن خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا، فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً،وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً» (رواه البخاري).


وكثيرا ما كان يحكي القصص الواقعية من الأمم السابقة كما في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلي الغار فدعوا الله بصالح أعمالهم، وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً وأمثالها كثير.

إنه أسلوب النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم مع ذلك الجيل الفريد الذي تمنينا أن نقتدي به.

لقد نجح لقمان الصالح ولا شك في موعظة ابنه، ونجح رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في تقديم الموعظة والنصح بأفضل الأساليب الشرعية الشيقة للسامع، الجذابة للصغار والكبار، والتي يحبذها الإنسان بطبعه بل يدعو لها علماء النفس باعتبارها تفسح الخيال وتغذيه، ليتنا نتأسى بتلك النماذج في موعظة أبنائنا لوقايتهم من كل مظاهر الانحراف التي تبدو لنا وأسبابها ونرقى بهم لغرس ما يمكن من الفضائل.

أميمة الجابر