الحق ليس طلاسم!
مدحت القصراوي
إن معرفة الحق من الباطل ليست صعبة، فلا بد من أمور محكمة يعلم بها طالب الحق مطلبه، فقد جعل الله تعالى محكمات بها يُعرف الحق من الباطل، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "واقبلوا الحق فإن على الحق نورًا"، ولم يجعل الله تعالى الحق من الباطل ألغازًا، بل ثمة محكمات للأمور وأصولاً لها.
- التصنيفات: التقوى وحب الله - تزكية النفس -
مسؤولية الضلال والغي.. الحق ليس طلاسم!
قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب:67]، ذكر ابن كثير عن ابن أبي حاتم أنه روى عن طاووس أنه قال: "سادتنا: يعني الأشراف، وكبراءنا: يعني العلماء"، ويقول النسفي: "ذوي الأسنان منا أو علماءنا"، وعلى هذين المعنيين تدور التفاسير، أن المقصود في الآية القيادات الدينية والدنيوية الفاسدة والمنحرفة.
وخطاب القيادات المنحرفة عمومًا إما لتغييب العقول وإما التلاعب بالإرادة.
تغييب العقول بتزيين الباطل وتشويه الحق ليُرفض الحق ويُقبل الباطل، يسمى ضلال وإضلال.
التلاعب بالإرادة يكون بتزيين الشهوات للحصول عليها أو التهديد بالحرمان منها، ولو كانت شهوات متوهمة، وهذا غواية وإغواء، أو التلاعب بالإرادة بتهديدها بالتخويف وفرض الاستضعاف.
ضلال أحد بسبب آخر ليس عذرًا لأحد، فقد اجتمع الضال والمضل في النار {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]، ولو كان هذا الإضلال عن طريق إيهام إرادة الخير {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ . قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ . قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات:27-29]، واليمين هنا هو الخير المراد أو المزعوم.
غواية أحد بسبب آخر ليس عذرًا له فقد اجتمع الغاوي والمغوي في النار {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ . قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا..} [القصص:62-63]. يقول البيضاوي: "أغويناهم فغووا غيّا كما غوينا".
إلغاء إرادة أحد من أجل أحد ليس عذرًا له {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [إبراهيم:21]، كل هذه الحوارات دارت بين أطرافها في النار.
في دين الله تعالى يعدّ التنازل عن مسؤولية التفكير والعقل والموقف (جريمة)، وفي دين الله تعالى يعدّ التنازل عن الإرادة استضعافًا أو غواية خلف أحد وتسليمه التبعة (جريمة).. فمن اتبع غيره ضلالاً أو غواية فثمة إجرام في قلبه دفعه إلى هذا، {..يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ:31-32].
إن معرفة الحق من الباطل ليست صعبة، فلا بد من أمور محكمة يعلم بها طالب الحق مطلبه، فقد جعل الله تعالى محكمات بها يُعرف الحق من الباطل، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "واقبلوا الحق فإن على الحق نورًا"، ولم يجعل الله تعالى الحق من الباطل ألغازًا، بل ثمة محكمات للأمور وأصولاً لها.
وفي ظرفنا الراهن لينظر امرؤ لنفسه، فإن على الحق نورًا وله علامات، والضلال بيّن لا يشتبه، ويجب ألا يشتبه عليك، ومن أراد معرفة الحق من الباطل فلينظر إلى أمور:
1- حقيقة الدين وكونه منهجًا شاملاً، وأي الاتجاهين يرفع رايته وأيهما يحاربه.
2- رفقاء الموقف مؤمنون ووطنيون شرفاء، أم علمانيون وشيوعيون وإباحيون ونصارى متطرفون، وأجهزة قمعية وأعداء إقليميون ودوليون.
3- نظرة سريعة ومجملة على تاريخ العلمانية العسكرية التي جاءت منذ الحملة الفرنسية ثم رعاها الاحتلال الإنجليزي، ثم سلمها الأمريكيون والإنجليز البلاد، ثم نظرة أقل سرعة للتاريخ منذ 52 وحال البلاد ومحاربة الإسلام وتمكين العدو الإقليمي، ثم نظرة أكثر تفصيلًا بقليل على الثلاثين عامًا الماضية، ثم نظرة أكثر تفصيلاً من يناير إلى الانتخابات الرئاسية ثم صناعة (المخاوف) و(الأزمة) التي يتدخل فيها لإنقاذ البلاد من حالٍ صنعه ذلك الكيان.
4- ثم لينظر إلى مآلات كل راية، هل إلى اتجاه إقامة الدين وعزته ورفعته وعزة أهله، أم إلى حربه وتجفيف منابعه وإذلال أهله؟
5- ثم لينظر أخيرًا في موقفه هل ستوقفه الخطابات ومداعبة الإرادات إلى أن يقيم الدين والشريعة ويناصر أهلها، أم سيدعم ويناصر استبدال الشريعة وتقرير الشرائع المبدلة، ولينظر في مسؤوليته حيال موقفه ولا يرمي تبعته على أحد، فإنه ليس بنافعه وليس عذرًا له.
الحق ليس طلاسم، وهو موجود حيث طلبتَه، لكن الغشاوة على العيون أو العمى على القلوب، أو زيغ القلوب وانحراف إراداتها، هو الذي يحول دون الحق ورؤيته، فإذا لاح لك الحق فلا تقل لقد ظهر بعد خفاء بل قل لقد أبصرتُ بعد عمى.