عالم الكون ونواميسه.. والمجتمعات وأحداثها
مدحت القصراوي
إن الله تعالى يدبر قوانين الكون، الشمس والقمر، وسير الفلك والسحاب، والمطر وخروج النبت، وبزوغ الصباح، هذا هو الله تعالى الذي يدبر عالم الإنسان وقوانين المجتمعات، والنصر والغلبة، والهزيمة وضياع الملك، وتبادل الأيام وتقليبها، وهذا كله مرتبط بوجوده تعالى وصفاته، فهي رسالة للمؤمن أن يطمئن فيتوكل على الله تعالى، وللكافر أن يعلم أن الأمور بيد عادل قيوم لا يغيب فلا يأمن لعاقبة فعاله الخبيثه فالله تعالى بالمرصاد.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
ثمة ربط مطرد في كتاب الله تعالى، يربط بين عالم السماوات والأرض، والكون وأحداثه، وبين عالم الإنسان، سواء ما في صدر كل امرىء أو خط سير المجتمعات، ولهذا دلالات مهمة جدًا.. أما هذا الربط فانظر في هذه الآيات:
(1) {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26]، فهذا عالم الإنسان الاختياري وعالم المجتمعات البشرية، ثم أردفها تعالى بعالم الكون فقال تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27].
(2) وانظر في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} [سورة التغابن من الآية:3]، فهذا عالم الكون، ثم قال تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [سورة التغابن من الآية:3]، ثم قال تعالى مكررًا هذا الربط في الآية التالية: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة التغابن من الآية:4]، فهذا عالم الكون بنواميسه ثم قال: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [سورة التغابن من الآية:3]، فربط تعالى بين عالم الكون وقوانينه وعالم الإنسان، في الجانب الاختياري، ونواميسه.
(3) في سورة فاطر يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر من الآية:38]، هذا عالم الكون وقوانينه، ثم قال تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [فاطر من الآية:38]، وذات الصدور يعني: صاحبات الصدور، يعني تلك الخبيئات الملاصقة للصدر لا تفارقه، حتى صارت صاحبة للصدر، لم تظهر لأحد ولم يطلع عليها أحد، تلك الخبيئات يعلمها الله تعالى، فهذا أيضًا ربط بين قوانين الكون بما فيه، وقوانين الصدور البشرية.
(4) في ربط عميق جدًا في سورة الحج يقول تعالى في ثلاث آيات متتاليات، يذكر فيها تعالى قوانين الحياة البشرية الاختيارية {ذَٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج:60]، ولما ذكر عالم القوانين البشرية أتْبعها بعالم الكون برهانًا على الحقيقة الأولى، فقال تعالى {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:61]، فذكر عالم الكون بقوانينه ونواميسه ليقول للناس إن مدبر هذا هو مدبر ذاك..
ثم يربط تعالى الحقيقتين بما هو أعمق من هذا وذاك، فذكر تعالى ارتباط قوانين عالم الكون وقوانين عالم الإنسان، ارتباط هذا كله بوجود الله تعالى نفسه وصفاته التي لا تبديل لها، ليقول للناس إن هذه القوانين ثابتة لا تتبدل ولا تتغير فاطمئنوا لأنه مرتبطة بالله تعالى، بذاته ووجوده وصفاته تعالى العلى وأسمائه الحسنى، فقال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج:62].
لهذا كله دلالة مهمة: إن الله تعالى يدبر قوانين الكون، الشمس والقمر، وسير الفلك والسحاب، والمطر وخروج النبت، وبزوغ الصباح، هذا هو الله تعالى الذي يدبر عالم الإنسان وقوانين المجتمعات، والنصر والغلبة، والهزيمة وضياع الملك، وتبادل الأيام وتقليبها، وهذا كله مرتبط بوجوده تعالى وصفاته، فهي رسالة للمؤمن أن يطمئن فيتوكل على الله تعالى، وللكافر أن يعلم أن الأمور بيد عادل قيوم لا يغيب فلا يأمن لعاقبة فعاله الخبيثه فالله تعالى بالمرصاد.
ــ ودلالة ثانية، وهي أهمية وقيمة العمل البشري في ميزان الله تعالى وميزان هذا الكون، وأن الأحداث، خاصة ما يجري بين المؤمنين بمنهج رب العالمين وبين عدوهم، ليس صراعًا على هامش الحياة بل هو في قلبها وعليه قامت الحياة وعلى أثره تُقضى أقدار وتدابير ربانية.
ــ أيها المؤمن انظر إليهم كيف يطمئنون إلى من يعبدون، يطمئنون لأن طواغيتهم تقف بجانبهم وتساندهم، وأنت اليوم مدعو إلى أن تطمئن إلى جناب ربك وإلهك الذي قمت بنصره ونصر دينه ومنهجه..
ــ يبقى أمر واحد، دعه لا يحول بينك وبين ربك، وهو الذنب، وهنا تأتي التوبة والاستغفار، {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران من الآية:147]، إن أُتينا نؤتى من قبل ذنوبنا، فالله لا يخلف وعده ولا يترك أولياءه.
ــ ورغم الذنوب فلا تنسى أن نصرة هذا الدين من أعظم القربات والطاعات، فولاية الله تعالى قائمة، والقوم فيها درجات، فطهارة النفس من الذنوب وثبات القلب من أجل الله تعالى بهما يحصل الخير والنصر، وبهما يحصل ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، جانب الله أقوى وركن الله أشد وجنابه أعظم، وتدبيره أحكم وحمده سابق ولاحق، وفي كل حين، فالحمد لله رب العالمين.