ضوابط اختيار الصديق في (ظلال آية)

أيمن الشعبان

الصديق الصالح، والأنيس الناصح، والأخ الصادق، والرفيق المخلص، والجليس العاقل التقي؛ نعمة ربانية، ومنحة إلهية، وعطية جزيلة، وهبة عظيمة، لا تقدر بثمن، ولا يستعاض عنها بكنوز الأرض، كيف لا وقد قال عليه الصلاة والسلام: «مَثَلُ الجليسِ الصَّالحِ والسَّوءِ، كحاملِ المسكِ ونافخِ الكيرِ».

  • التصنيفات: ترجمة معاني القرآن الكريم -

الحمد لله المتفضل بالجود والإحسان، أنعم علينا بإنزال القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، والصلاة والسلام على النبي العدنان، وعلى آله وصحابته الكرام، وبعد:

الصديق الصالح، والأنيس الناصح، والأخ الصادق، والرفيق المخلص، والجليس العاقل التقي؛ نعمة ربانية، ومنحة إلهية، وعطية جزيلة، وهبة عظيمة، لا تقدر بثمن، ولا يستعاض عنها بكنوز الأرض، كيف لا وقد قال عليه الصلاة والسلام: «مَثَلُ الجليسِ الصَّالحِ والسَّوءِ، كحاملِ المسكِ ونافخِ الكيرِ» [1].

يقول محمد بن واسع: "لم يبق من العيش إلا ثلاث: الصلوات الخمس يصليهن فِي الجميع فيعطى فضلهن ويكفى شرهن، وجليس صالح تفيده خيرًا ويفيدك خيرًا، وكفاف من العيش ليس لأحد عليك فيه منة ولا يخاف من اللَّه فيه التبعة" [2].

ومن جميل ما قيل في الأخوة الحسنة: "الود الصحيح: هو الذي لا يميل إلى نفع، ولا يفسده منع، والمودة أمن، كما أن البغضاء خوف" [3].

وأنا أتأمل سورة الكهف، توقفت مليًا عند قول ربنا سبحانه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [4]، فألفيتها جامعة لأصول اختيار الأصدقاء، نافعة في تحديد صفاتهم، يمكن أن تكون قاعدة أساسية، ومرجعًا مهمًا في هذا الباب.

كم نحن بحاجة لاستحضار واستذكار هذه الآية، في دنيا الفتن والمدلهمات، وتعلق الناس بالماديات، وانغماسهم بالملذات والشهوات، وانقلاب الموازين، وتغيّر المفاهيم، حتى صار الصادق كاذبًا، والكاذب ناصحًا، والصالح غريبًا، والمنافق المتلون عاقلاً حكيمًا!

ضرورة الإنسان لصديق صادق ناصح مخلص، تَعظُمُ في مثل هذه الظروف الحالكة، والأجواء المؤلمة، والأوقات الحرجة، لأن الله سبحانه ذكر هذه الآية بعد قصة فتية أصحاب الكهف، وما مروا به من محنة وابتلاء عظيم في دينهم، وابتدأها بعبادة الصبر لأهميتها في هذا الجانب، فقال عز وجل: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [5]، هنا وصية ربانية مهمة لكل مسلم، بأن يبذل جهده ويصبر نفسه، ملازمًا ومجالسًا ومصاحبًا من تحققت فيه تلك الصفات، التي تعين على الطاعة والثبات في الملمات ونوائب الدهر، ومن أهمها العبادة والإخلاص. 

{الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى [6].

ولما كانت الأموال والتجارة والمنصب والوجاهة زائلة، إلا من عمل صالحًا وأطاع ربه فيها، فلا يكن المقياس في اختيار الصديق تلك الحطام، لأنها تفسد القلوب وتنغّص العيش، فعليك بالمواظب على الطاعات، الذاكر لله كثيرا، المجتنب المعاصي والسيئات، فمن عظّم حقوق الله في قلبه وأداها بجوارحه، فحري به أن يحفظ حقوق إخوانه وجلسائه.

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ}: أي احبسها وثبتها، {مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ} أي مع أصحابك الذين يذكرونه سبحانه طرفي النهار، بملازمة الصلاة فيهما، {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي ذاته طلبا لمرضاته وطاعته، لا عرضًا من أعراض الدنيا، {وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ} أي لا تجاوز نظرك إلى غيرهم بالإعراض عنهم، {تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا} أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء تألفا لقلوبهم، {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا} أي جعلناه غافلاً لبطلان استعداده للذكر بالمرة، أو وجدناه غافلاً عنه، وذلك لئلا يؤديك إلى الغفلة عنه {وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} أي متروكًا متهاونًا به مضيّعًا [7].

ومما يستفاد من الآية في ضابط اختيار الصاحب الناصح الأمين سيما في مواطن الفتن؛ رفقة أهل الصلاح وذوي الرأي السديد والعقل الراجح القويم، فإنهم مما يعين على العصمة من فتنة الدين ودوام تذكر الآخرة.

كذلك من معايير معاشرة وانتقاء الأصحاب، اختيار من لا يخالطك لغرض دنيوي أو مصلحة مادية ومنفعة وقتية، إنما يريد بذلك وجه الله والنصح والأخوة الصادقة، بعيدا عن أخوة النسب والوطن والقومية والجنسية والقبيلة والعشيرة.
ولله در القائل [8]:

كم من أخٍ لكَ لم يلده أبوكا *** وأخ أبوه أبوك قد يجفوكا
صافِ الكرام إذا أردت إخاءهم *** واعلم بأن أخا الحِفَاظِ أخوكا
كم إخوةٍ لك لم يلدك أبوهُم *** وكأنما آباؤهم ولدوكا
لو كنت تحملهم على مكروهة *** تخشى الحُتوف بها لما خذلوكا
وأقاربٍ لو أبصروك معلقًا *** بنياط قلبك ثَمَّ مَا نصروكا
الناسُ مَا استغنيت كنتَ أخًا لهم *** وإذا افتقرت إليهمُ فضحوكا


من صفات الجليس أيضًا، أن لا يكون متبعًا لهواه، بل متجردًا في آراءه منصفًا في أقواله وتقريراته، لقوله سبحانه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف من الآية:28]، أي ضياعًا وهلاكًا وخسارة، لأنها نتيجة طبيعية لاتباع الهوى الذي هو من ألد أعداء الإنسان.

إني بليت بأربع ما سلطوا *** إلا لعظم بليتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى *** كيف السبيل وكلهم أعدائي[9]  


قال الحسن: "أيها الرجل، إن أشد الناس عليك فقدًا، لرجل إذا فزعت إليه وجدت عنده رأيًا، ووجدت عنده نصيحة، بينا أنت كذلك إذ فقدته، فالتمست منه خَلَفا فلم تجده" [10].

والصديق النافع من أخلص لك النصيحة، دون مجاملة أو تملق، وكما قيل: صديقك من صدقك -أي النصيحة- لا من صدّقك بكل ما تقول ولو كان باطلاً!

المتأمل في الآية المتمعن بمدلولاتها ومقاصدها، يجد لزامًا صفات لا بد منها، في الصاحب المثمر، والجليس النافع، منها:

- الوفاء: لأن الصديق الوفي عملة نادرة لا تقدر بثمن، ولا تخضع للموازين الدنيوية أو الأرقام والمقاييس العادية والحسابات المرئية، وكما قال ابن حزم: "المصيبة في الصَّديقِ النَّاكِثِ أعظمُ من المُصيبة به" [11].
قال سَعِيد بْن أَبِي أيوب: "لا تصاحب صاحب السوء، فإنه قطعة من النار، لا يستقيم وده ولا يفي بعهده" [12].

- رجاحة العقل: لأن الصديق الجاهل أضر وأسوأ من العدو العاقل.
قال ابن حبان: "العاقل لا يؤاخي إلا ذا فضل في الرأي والدين والعلم والأخلاق الحسنة، ذا عقل نشأ مع الصالحين؛ لأن صحبة بليد نشأ مع العقلاء خير من صحبة لبيب نشأ مع الجهال" [13].

وَلَمَن يعادي عاقلاً خير له *** من أن يكون له صديق أحمقُ
فارغب بنفسك أن تصادقَ أحمقًا *** إن الصديق على الصديق مصدَّق[14]  


قال بعض العلماء: "التمس وُدَّ الرجل العاقل في كل حين، وود الرجل ذي النكر في بعض الأحايين، ولا تلتمس ود الرجل الجاهل في حين" [15].

- صاحب المبدأ الثابت في المواقف: لأن العاقل لا يصادق المتلون، ولا يؤاخي المتقلب، ولا يظهر من الوداد إلا مثل مَا يضمر، ولا يضمر إلا فوق مَا يظهر، ولا يكون في النوائب عند القيام بها إلا ككونه قبل إحداثها والدخول فيها، لأنه لا يحمد من الإخاء مَا لم يكن كذلك [16].

تنبيهات:
أولًا: يجب التنويه أن اختيار الصاحب والجليس، لا يقتصر فقط في الحياة الطبيعية بالعمل والمدينة أو الحي، بل أصبحت اليوم وسائل التواصل لا حدود لها، بسبب التطور التقني والتكنولوجي، وتنوع طرق وآليات الاتصال الصوتي والمرئي والمكتوب، كمواقع التواصل عبر الإنترنت (فيسبوك، تويتر، يوتيوب، أنستغرام، وغيرها) ومجاميع الشات عبر الجوال.

وعليه فكل ما ذكرناه من ضوابط ومعايير، في اختيار الصاحب نحن بأمس الحاجة لها في التواصل الألكتروني، وما نسمعه ونشاهده من مصائب وطامات وهدم للأسر والبيوت وإفساد، لعدم التنبه لهذه القضية واستسهال بناء العلاقات في العالم الافتراضي عبر الإنترنت، دون قيود أو رجوع للتأصيل الشرعي في ذلك.

ثانيًا: لما كان الصاحب ساحب، ومن صَحِبَ قومًا عُرِفَ بهم، وقد يترتب على هذا الاختيار خيري الدنيا والآخرة، أو تعاسة وفتن مستطيرة؛ لا بد من التنبه لما يلي:
قال مالك بْن دينار: "إنك أن تنقل الحجارة مع الأبرار، خير من أن تأكل الخبيص مع الفجار" [17].

اختبار قبل مؤاخاة الرجل:
قال عوانة بْن الحكم: قَالَ لقمان لابنه: "يا بُنَّي، إذا أردت أن تُؤاخيَ رجلًا فأغضِبه قبل ذلك، فإن أنصفك عند غضبه، وإلا فدعه".
 

قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: الصَّاحِبُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَالْوَحْدَةُ خَيْرٌ مِنَ الصَّاحِبِ السُّوءِ، وَمُمْلِي الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنَ السَّاكِتِ، وَالسَّاكِتُ خَيْرٌ مِنْ مُمْلِي الشَّرِّ".

لا تكن من هذا الصنف:
قَالَ رجل من الأعراب: "مِن أعجز الناسِ مَن قَصَّر عَن طلب الإخوان، وأعجز منه: من ظفر بذلك منهم، فأضاع مودتهم، وإنما يحسن الاختيار لغيره، من أحسن الاختيار لنفسه".

21- ربيع أول- 1435هـ
21/2/2014

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] متفق عليه.
[2] تاريخ دمشق.
[3] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء.
[4] (الكهف:18). 
[5] (الكهف:18).
[6] تفسير السعدي.
[7] تفسير القاسمي.
[8] تاريخ دمشق.
[9] شرح البخاري للسفيري.
[10] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء.
[11] كتاب الأخلاق والسير.
[12] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء.
[13] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء.
[14] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء.
[15] غاية المنوة في آداب الصحبة وحقوق الأخوة.
[16] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء.
[17] روضة العقلاء ونزهة الفضلاء.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام