{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} دعوة لتعهد التوحيد وتجديده
أبو الهيثم محمد درويش
يحتاج العبد لمراجعة النفس وتعهد القول والقلب والعمل، وتجديد التوحيد فيه والتوبة والإنابة عن كل شائبة تعكر التوحيد في قلب العبد، طالما أنك تعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه هو الله المحيي المميت الرزاق الذي له الكمال في كل أفعاله وأسمائه وصفاته..
- التصنيفات: الشرك وأنواعه - القرآن وعلومه -
يحتاج العبد لمراجعة النفس وتعهد القول والقلب والعمل، وتجديد التوحيد فيه والتوبة والإنابة عن كل شائبة تعكر التوحيد في قلب العبد، طالما أنك تعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه هو الله المحيي المميت الرزاق الذي له الكمال في كل أفعاله وأسمائه وصفاته..
فلا بد إذًا من صرف كل عبادة له وحده خالصة، سواء كانت عبادة باطنة أوظاهرة سواء كانت نسك (كالصلاة والصيام والحج والزكاة...إلخ)، أو كان التوحيد توحيد اتباع، بإفراده وحده في الاتباع بلا شريك، فلا شرع إلا شرعه ولا أمر إلا أمره ولا يحكم في كونه إلا هو، لا قانون إلا شريعته ولا حاكم مطلق إلا هو عز وجل..
وتوحيده في الطاعة المطلقة سبحانه، طاعة لما شرع في كتابه وما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، مما يجب الطاعة المطلقة له فيه، بفعل ما أمر والانتهاء عما نهى وزجر.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21-22].
قال ابن كثير:
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته، بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده، بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشًا، أي: مهدًا كالفراش مُقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32]، وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب ها هنا- في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد رزقًا لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن.
ومنْ أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر:64]، ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار، وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يُشْرَك به غَيره ؛ ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: «
» الحديث، وكذا حديث معاذ: « »، الحديث وفي الحديث الآخر: « ».وقال حماد بن سلمة: حدثنا عبد الملك بن عمير، عن رِبْعيِّ بن حِرَاش، عن الطفيل بن سَخْبَرَة، أخى عائشة أم المؤمنين لأمها، قال: "رأيت فيما يرى النائم، كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: من أنتم؟ فقالوا: نحن اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عُزَير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، قال: ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد..
فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: « » فقلت: نعم. فقام، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « »" (هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة، به. وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر، عن عبد الملك بن عمير به، بنحوه).
وقال سفيان بن سعيد الثوري، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما شاء الله وشئت. فقال: «
»" (رواه ابن مردويه، وأخرجه النسائي، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس، عن الأجلح، به)، وهذا كله صيانة، وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم.وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: "قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين، أي: وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم".
وبه عن ابن عباس: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه"، وهكذا قال قتادة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، حدثنا أبي عمرو، حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم، حدثنا شبيب بن بشر، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله، عز وجل {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، قال: "الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صَفَاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البطّ في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئتَ، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها (فلان) هذا كله به شرك".
وفي الحديث: أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما شاء الله وشئت، فقال: «
»". وفي الحديث الآخر: « ».قال أبو العالية: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} أي عدلاء شركاء"، وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة، والسُّدي، وأبو مالك: وإسماعيل بن أبي خالد، وقال مجاهد: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال: "تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل".
ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة:
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف، وكان يُعَد من البُدَلاء، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الأشعري، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: « ».
قال: «
».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
»، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ فقال: « »"، هذا حديث حسن، والشاهد منه في هذه الآية قوله: « ».وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال: "وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب، وقد سئل: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله، إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟".
وحكى فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف اللغات والأصوات والنغمات، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال لهم: "دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء، وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد"! فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال: "ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع"! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.
وعن الشافعي: "أنه سئل عن وجود الصانع، فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعرًا وروثًا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد".
وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: "ها هنا حصن حصين أملس، ليس له باب".