خاطرةٌ حول القانون .. وأشياء أخرى ..
من القضايا المهمة التي أسهب فيها الأصوليون = دلالات الألفاظ والألفاظ المشتركة (( التي وضعت ابتداء لأكثر من معنى)) والألفاظ المنقولة (( التي انتقلت من معناها المتواضع عليه إلى معنى ثان لمناسبة بينهما)) وهي على ثلاثة أضرُب : المنقول العرفي والمنقول الشرعي والمنقول الاصطلاحي ومثل العلماء للمنقول الشرعي بلفظ الصلاة فإنه في الأصل بمعنى الدعاء ثم نُقل إلى الاستعمال الشرعي وهو العبادة المخصوصة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم)) وبناء على هذا فقد تواطأ العلماء على النظر في اللفظ وفي السياق الذي استُخدم فيه والحال التي استُحضر فيها ليصح بذلك فهمهم وحكمهم.
- التصنيفات: التصنيف العام -
بسم الله الرحمن الرحيم
هو وليي وبه أستعين
خاطرةٌ حول القانون .. وأشياء أخرى ..
(1)
من القضايا المهمة التي أسهب فيها الأصوليون = دلالات الألفاظ والألفاظ المشتركة (( التي وضعت ابتداء لأكثر من معنى)) والألفاظ المنقولة (( التي انتقلت من معناها المتواضع عليه إلى معنى ثان لمناسبة بينهما)) وهي على ثلاثة أضرُب : المنقول العرفي والمنقول الشرعي والمنقول الاصطلاحي ومثل العلماء للمنقول الشرعي بلفظ الصلاة فإنه في الأصل بمعنى الدعاء ثم نُقل إلى الاستعمال الشرعي وهو العبادة المخصوصة المفتتحة بالتكبير والمختتمة بالتسليم)) وبناء على هذا فقد تواطأ العلماء على النظر في اللفظ وفي السياق الذي استُخدم فيه والحال التي استُحضر فيها ليصح بذلك فهمهم وحكمهم.
وهذه العملية جزء من الخطوات التي تندرج تحت المقولة الأصولية الشهيرة ((الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره )) فمن تصور الشيء تصوراً صحيحاً وفهمه على الوجه المراد فسيكون حكمه في الغالب صحيحاً ومن يتصور الشيء تصوراً خاطئاً فهو لا محالة سيُخطيء في حكمه عليه لأنه لم يفهمه على الوجه المراد، والكلام في هذا يطول وإنما توجبت الإشارة إليه تمهيداً لما نُريد تناوله في هذه الخاطرة.
(2)
في نقاش حول القوانين مع صديقي دارس الدكتوراه في القانون، ذهب بنا النقاش كل مذهب حتى استقر بناء على العلاقة بين الشرعيين والقانون فكان مما قاله " أن العلماء لديهم جمود في التعامل مع الجديد ويفتقدون لسعة الافق في ذلك" وكان مُتحسراً في ذلك ويتمنى أن تصل هذه الملاحظة إليهم لأنه يُكن لهم الإحترام والتبجيل، وضرب مثالاً على هذا الجمود " برفض استعمال مصطلح قانون واستبداله بمصطلح النظام وكذلك استبدال مصطلح السُلطة التنظيمية بدلاً عن مصطلح السُلطة التشريعية.
فأين المشكلة !؟
لقد استخدم العلماء والأصوليون لفظة قانون في كتبهم من قديم كتعبير عن المعيار الذي يُقاس به الشيء، فإذا كان هذا الاستعمال ثابتٌ عنهم من قديم فما بالهم رفضوه في العقود الماضية القريبة ؟ وهل فعلاً رفض علماؤنا هذا المصطلح لأنه جديد ؟ أم أن لهم أسبابهم؟
لقد ارتبطت لفظة القانون – في العقود المتأخرة - بما يتواضع عليه الناس في مجتمع من المجتمعات من أحكام بشرية منفصلة انفصالاً تاماً عن شريعة الله سبحانه وتعالى، فكان القانون يُطلق في ذلك الوقت على ما يسمى اليوم بالقانون الوضعي، فهذا اللفظ كان يُعبر عما اخترعه الإنسان لنفسه من تشريعات مُخالفة للشريعة الإلهية!
ولأجل هذا العُرف الذي كان دارجاً لمعنى هذا المصطلح "القانون" فقد رفضه عُلماء الشريعة لما يعني في قبوله قبولاً للحكم بغير ما أنزل الله، وهم – أي علماء الشرع - قد استخدموا هذه اللفظة من قبل في كتبهم عندما كان معنى اللفظة لا يُخالف الشرع كما أشرنا من قبل.
وهكذا فعلوا مع مصطلح " السلطة التشريعية" والذي اصطلحت المجتمعات على إطلاقه على المجالس المُختصة بكتابة التشريعات الوضعية للناس فإنهم رفضوه لما يعنيه من تمرد على شريعة السماء التي ارتضاها الله لخلقه فاستبدلوه بمصطلح السلطة التنظيمية خروجاً من شبهة التشريع من دون الله.
وأما اليوم وبعد أن صار مصطلح القانون الوضعي – وليس القانون - يدل على ما يُشرع من دون الله فقد وُجد استعمال مصطلح القانون في سياقات كثيرة في كتابات الشرعيين وبحوثهم لزوال اللبس وحصول التمايز فامتنع بذلك المانع، ورغم هذا فلا شيء يدعوا لمؤاخذة من لا يزال إلى اليوم يمتنع عن استعمال مصطلح القانون لكون المصطلح مُشكل وتندرج تحته معانٍ حسنة وأخرى سيئة ، فإذا تبين ذلك فإنه يتبين أن ما فعله العلماء مع هذين المصطلحين هو من أحسن الفعل وأجمله ودليلٌ قاطعٌ على حسن نظرهم ومحاكمة الألفاظ بدقة وحنكة، كما يتبين أن من خطأهُم إنما خطأهُم لما استقر عنده من خطأ في التصور نتج عنه خطأ في الحكم.
ثم لنفرض جدلاً أن مصطلح "القانون" في تلك الحقبة لم يكن يدل على ما شرعه الناس لأنفسهم أو أن مصطلح السلطة التشريعية لم يكن مستعملاً لهذا المعنى الفاسد المُشار إليه، لنفرض ذلك؛ فما الذي يمنع من وضع مصطلحات تخصنا وتُعبر عن هويتنا ؟ بل مالذي يُحوجنا لاستعمال مصطلحات غير عربية "كالقانون" وعندنا لغة تنبض بالحياة وفيها من أنواع الألفاظ والتراكيب ما تتفوق به على كل اللغات مجتمعة وهي قادرة على إمدادنا بألفاظ – وليس لفظاً واحداً – للتعبير عن ما نريد من غير إفتقار لغيرنا؟
(3)
وهذا يُذكرنا بموقف بعض العلماء من تعليم البنات في بداياته – كالشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله – فإنهم رفضوه بناء على ما تعارفت عليه المجتمعات من حولنا في ذلك الوقت في أسلوب تعليم الفتيات ، فقد كانت المدارس العربية تبعاً للمدارس الغربية في تعليم البنات أصنافاً من العلوم التي تجعلها في جاهلية وإن سموها بغير اسمها ، فكانت العادة حينها أن يلبس الفتيات ألبسة فاضحة لا يرضاها المسلم الغيور ولا الرجل السوي مسلماً كان أو كافراً وكن يدرسن الموسيقى والرقص وغير ذلك مما كان هدفه السير نحو التفسخ والإنحلال باسم العلم والتقدم حالهن حال ثورة المصريات على الاستعمار البريطاني الذي تحول في منعطف من منعطفاته إلى ثورة على الدين والقيم والحشمة فتحولت المظاهرة الرافضة للبريطانيين إلى ثورة تُمزق الحجاب وتقول للبريطانيين ارحلوا فقد حققنا لكم ما ترجون!
فلما كانت الامثلة الحية لمدارس البنات في طول الأرض وعرضها أمثلة سيئة وفاسدة؛ كان موقف العلماء = الرفض والاستنكار خوفاً من استنساخ هذه الامثلة ونقلها إلى بلادنا، ونعم ما فعلوا.
فلما تعهد ولي الأمر بتعليم البنات تعليماً مُستقلاً لا يصدر إلا عن تعاليم الشريعة ولا يتصادم مع الفطرة الإنسانية؛ كان العلماء في أول ركب الداعمين لتعليم البنات - ولك أن تثراجع كلام الشيخ محمد بن إبراهيم وعبد الله ابن حميد في هذا - ولماذا يرفض العلماء تعليم النساء وقد جاءت الشريعة بحث المسلمين على التعلم والتعليم بلا تفريق بين رجل وأنثى " طلب العلم فريضة على كل مسلم" ولا زالت المجتمعات الإسلامية عبر العصور تُخرج لنا عالمات مُسلمات، ولم يكن رفض تعليم المرأة إلا صفة للغربي الذي كان يعاملها معاملة من لا يفهم ولا يعقل خلافاً لشريعة السماء، ثم تحول هذا الغربي من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال فهو من تيه إلى تيه!
فلا حقيقة لما يتردد من أن العلماء وقفوا سداً منيعاً أمام تعليم البنات هكذا بإطلاق، وما هذه التهمة إلا بغرض تشويه سمعة العلماء ليُقال للناس انظروا إليهم إنهم يمنعون الجديد ثم يسلكونه إذا فُرض عليهم، وهذه طريقة رخيصة يدخل منها الفاسدون إلى عقول الناس ليوهموهم أن ما يقف العلماء ضده اليوم سيكون غداً مُباحاً وأن وقوفهم ضده ليس لكونه ممنوعاً شرعاً وإنما لكونه جديداً ..!
فإذا تبين هذا؛ عُرف أن العلماء كانوا ولا يزالون على بصيرة ثاقبة في أحكامهم وأن الخطأ الوارد ممن اتهمهم بمنع تعليم البنات إنما هو ناتج عن تصوره الخاطئ للمسألة الذي أورثه الخطل في الحكم.
ثم لنفرض أن هناك من وقف ضد تعليم المرأة فعلاً بلا سبب وجيه؛ فإن هذه المواقف حصلت في مجتمعات كثيرة، بل وقوعها في المجتمعات التي لا تعترف بشريعة السماء أكثر من غيرها، لأن تلك المجتمعات لا تخرج عن طريقين، إما طريق الخوف من كل جديد وإما الانفلات والانفتاح على كل جديد وسيظل هذا حالهم ما داموا في تمردهم على شريعة السماء، وأما المجتمعات المسلمة فهي لا تقع في هذه الأخطاء إلا إذا تخلفت عن نداء الشريعة، فتتخلف بحجم تخلفها عن الشرع ولا يظلم ربك أحداً.
(4)
ويدخل في هذين الحدثين السابقين – الموقف من مصطلح القانون ومن تعليم البنات – أحداث كثيرة تُفهم بشكل خاطئ نتيجة عدم استحضار ظرفها وسياقها التاريخي، فمن ذلك مثلاً الطعن في جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده المصري والأمير عبد القادر الجزائري وغيرهم عن طريق إثبات التحاقهم بالماسونية العالمية وهذا كاف عند الطاعنين في إسقاط هولاء، وغرضنا هنا ليس الحكم على هذه الشخصيات أو تزكيتها وإنما المقصد أن الطاعن فيهم لم يستحضر الظرف والسياق التاريخي للماسونية في ذلك الوقت ولو فعل لعرف أن إثبات عضويتهم لا يعني القطع بالطعن فيهم لأن الماسونية لم تكن - في ذلك الوقت – حليفاً وداعماً للصهوينية واليهودية بل كانت أشبه بمحفل عالمي غرضه التواصل بين العقول كما أن الالتحاق بها كان علنياً ومعروفاً ولم يكن سرياً، ثم تطور مفهوم الماسونية بعد ذلك إلى ما عُرفت به كحليف للصهيوينة وهو ما يكفي للطعن في من يلتحق بها، فاللفظة واحدة لكن سياقاتها التاريخية مختلفة وأهدافها اختلفت من زمن إلى زمن.
علي بن جابر بن سالم الفيفي