مآتم أم أفراح؟!

إن كثيرًا من عباداتنا أصبحت فارغة من كل قصد شرعي، وعمل تعبدي، فتركت للناس وأهوائهم وما يرونُهُ هم صالحًا بحسب أعرافهم وتقاليدهم العجيبة الغريبة، فيا غربة الدين وتلفه!

  • التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات -

حضرت منذ مدة جنازة مهيبة لسيدة فاضلة، يشهد لها القاصي والداني بحسن أخلاقها وكريم فعالها، مع القريب والبعيد من الناس، والناس يا جماعة شهداء الله في الأرض، يستحيل أن يتواطؤوا جميعًا على تكذيب الصادق أو تصديق الكاذب! فرحمة الله عليها وجعلها في مقام أمين، وروضة فسيحة، مع صالح المؤمنين ما يهمني من هاته الجنازة التي حضرتها أنها لا تحمل من صفتها إلا الاسم، أما مجرياتها ومضمونها فهو بعيد عن أن يكن جنازة، إذ هو إلى العرس قريب! 

لقد كان الحضور بالعشرات يا سادة، وكانت دار العزاء ملئى لا تفرغ، فالناس بين غاد ورائح، وقد صادف اليوم الذي حضرته اليوم الثالث من وفاة الفقيدة، ولنا في هذا اليوم طقوس عجيبة غريبة، فهو يماثل بداية يوم العرس في مأكله ومشاربه، وفي خدمه وحواشيه، وفي الفرقة التي أحيت الليلة! أما المأكل والمشرب فإن أهل الميت يعملون جهدهم البالغ لإطعام الكبير والصغير، ليس طعامًا عاديًا بسيطًا، وإنما هو طعام فاره فاخر، بمختلف وجباته وصحونه، حتى أصبح الكثير من الناس يعد مناسبة العزاء مناسبة لإشباع البطن، وتناول الشاي! 

فأي عزاءٍ هذا وأية موعظة! فإذا كان الكلام الكثير يذهب الفطنة على حد قول المثل! فإن الاستعداد للاتعاظ بهاته المناسبة سرعان ما يخرج بعدما يدخل الأكل! وإذا فكر أحد أن يحضر الجنازة ولا يأكل فإن أهل الميت يغضبون منه ولا يفهمون من امتناعه إلا التعالي والتكبر، فأي غربة يوجد فيها الدين اليوم وأي بعد؟! وقد أصبح الإنسان اليوم يتكلف ويفكر في مصاريف الجنازة تفكيره في مصاريف الولادة والزواج! 

وأصبحنا نسمع عن تجهيزات للأموات بتكاليف باهضة، لم يات بذلك دين ولم يمدحه عقل! وليس هذا في نظري إلا ضياع لهاته الأموال بغير وجه حق، لم يطلب الله تعالى منا ذلك، ومن غير أن مع ما يتبع ذلك من ظلم للورثة -إن لم يظلموا هم أنفسهم بأنفسهم بعملهم مثل هذا- يشرع إلا للبعيد من الناس، وفي حدود وقته، فليس هناك يوم أول ولا يوم ثان ولا ثالث.. 

ومعلوم من هدي النبي عليه السلام، أن الأكل في الجنائز لم يشرع إلا للبعيد من الناس، ممن فارق بلاده وداره، كما أن السنة في ذلك أن يصنع الجيران والأقراب الطعام بدلًا من أهل الميت، لشغلهم بالجنازة وأمورها، فقد روى الإمام أحمد وابن ماجة وابن داوود حديث عن عبد الله بن جعفر، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فإنه قد أتاهم أمر يشغلهم»، وقد روى (السيد سابق) في كتابه "فقه السنة": "اتفاق العلماء على كراهية صنع أهل الميت للطعام، لما في ذلك من زيادة المصيبة عليهم، وشغلًا لهم إلى شغلهم، وتشبهًا بصنع أهل الجاهلية، وذهب بعض العلماء إلى تحريم ذلك". 

ولهذا جرت العادة أن يساعد جيران أهل الميت في الطبخ والأكل لهاته الفئة من الناس -أصحاب الأماكن البعيدة-، وفي هذا نوع من التضامن والبر بين الناس، وطبعًا هذا الجم الغفير، وهاته المصاريف الكبيرة تحتاج ليد عاملة تخدمها وتقوم عليها، مما يجعل الناس يتخذون خدمًا للسهر على توظيب مكان العزاء، وطبخ الأكل، وتقديمه، وجمعه، وهذا كله من نافلة الفعل والعمل، مما فيه ضياع للسنة والمال معًا. 

وثالثة الأثافي كما يقال هي أن أهل الميت في الغالب يتخذون فرقة يقولون أنها (للمديح والسماع)! وكيف يعقل في الجنازة حضور المديح والسماع؟! هل الأصل في الجنازة؛ عظة القلب أم طرب الأذن؟! إن هاته الفرق التي تحضر في مثل هاته المناسبات؛ تكون فرقًا خاصة بالمناسبات كلها، فرحها وترحها! وفي كل مناسبة تشدو بما عندها من كلام لا تفرق في ذلك بين ما يصلح للجنازة وما يصلح للزفاف، وما يصلح للعقيقة.. 

حتى إني سمعت وأنا في هاته الجنازة قول أحدهم مترنمًا ببيت من الغزل! 

نعم سرى طيف من أهوى فارقني *** والحب يعترض اللّذات بالسقم!

غزل في معرض الجنازة! إن هذا لهو البلاء المبين، هذا يدل على أن ما يسمى بفرقة (المديح والسماع) ليس لها من هدف أوغاية سوى أن تحضر لتنشط الحفل -عفوًا الجنازة-! وترجع بما يملأ البطن والجيب! 

فالحاصل إذًا: إن كثيرًا من عباداتنا أصبحت فارغة من كل قصد شرعي، وعمل تعبدي، فتركت للناس وأهوائهم وما يرونُهُ هم صالحًا بحسب أعرافهم وتقاليدهم العجيبة الغريبة، فيا غربة الدين وتلفه! 

 

طارق خايف الله

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام