شغب مطرد السيرة مستوجب للحيرة
محمد بوقنطار
لا شك أن الانتماء إلى الغرب هو إغراء يراود نفوس الخارجين، ويبقى مكس الانتماء هذا باهظ الثمن، ولذلك فلا غرابة أن يبيع الراغب في الانتماء الجديد شتى إيمانه، وتصير مواجهته مع الدين مواجهة عارية السوءة سافرة الوجه الصافق الصلد.
- التصنيفات: مذاهب فكرية معاصرة -
إن أي نظرة مستوعبة لزوايا جغرافيا المسلمين، وأي وقفة تأملية تأتي مصاحبة لهذه النظرة، لكفيلة بوضع اليمين على طرف الحبل الأول والمسؤول عن عملية الجر والسحب، المزيحة للستار الذي تتوارى من خلفه ومن بين يديه حقيقة الأدوار التي يمارسها المترفون عبر شغبهم وتشغيبهم، وكذا حقيقة الترتيب الزمني وتحيينه المكاني المنظِم لتركة الحصحصة وهذا الخروج.
فموضوع كموضوع الإجهاض، أو فريضة الإرث، وإشكالية الشريعة، ومسألة الحدود، وغشاوة البكرة، وزواج الصغيرة، وفضل النقاب، وواجب الحجاب، والحق المطلق في الحرية الفردية وما ينضوي تحت مسماها الفضفاض من إباحية ومشاعية وبهيمية، وكذا ضجيج بعض المخرجين وأفلامهم النافقة أخلاقيًا، وتهمة (أكثر أبو هريرة)، وشبهة (تطرف البخاري) في دعوى ضم الصحيح ولمّه، وحبل المعطوفات طويل الذيل مفتول العضلات معربد الصدع، كلها أمور تؤثث سقف هذا الضجيج العدواني، والتهمة المترددة الصدى هنا وهناك وهنالك.
ولا شك أن القوم اليوم وبقياس درجة حرارة ضجيجهم والوقوف على مستوى وسقف مطالبهم يكونون قد قطعوا مسافة بعيدة كل البعد عن دعوى التأسيس الأول، والتي كان شعارها محاولة خلق مصالحة بين الدين والواقع، أو إلباس الدين جبة المعاصرة تكييفًا له حسب الزعم مع مستجدات النوازل التي لم تكن معروفة في أسلافنا، وخوفًا عليه من أن يصير حال أحكامه إلى الأثر بعد العين..
وخروجًا به من النفق الذي يجعله في مواجهة مباشرة مع صنم الحداثة، والتي من شأنها أن تجعل الدين في حرج وضرب انتحار ووهن انتشار، متى ما أبقينا على دندنة حد الردة مثلا؛ أو عقوبة الرجم، أو تمييز بين البشر على أساس ديني، أو تحريم فن من الفنون، وذلك في ظل زمن الليبرالية وطغيان أفكار حقوق الإنسان، وهيمنة المفاهيم الديموقراطية ودور المرأة الريادي في ثوبها السافر الرياضي، والذي يجعلها في مواجهة صافقة مع نص يستعبدها -حسب الزعم-؛ كقول النبي عليه الصلاة والسلام في ما صح عنه: « » (السلسلة الصحيحة:3366)، أو نص يهينها فيعيدها بعد التحرير والتحرر إلى مثلبة الوقر في البيت حسب الزعم تبَعل الرجل، وتربي أولاده لا أولادها في دائرة الفهم الحداثي لمسمى الأم كقول الصادق المصدوق: « » (صحيح البخاري:4425).
وليس المقصود من سرد فصول هذا الركز وهذه التهم والمزاعم محاولة إخراجها إلى واضح الفضح، فليس هذا قصدنا وكيف له أن يكون قصدًا في مناخ انتقل فيه المنكر من قول نبينا عليه الصلاة والسلام: «صحيح مسلم:49)، الحديث إلى قول من قال: "أن المنكر هو الذي أصبح يرانا"، ولا شك أن شرح الواضحات من المفضحات إن صح التعبير.
» (ولكن المراد هو الوقوف على حقيقة الدور الذي أُنيط اليوم بالمترفين، ومغزى خروجهم المتكرر بضابط التناوب وضابط استيعاب الثغر الإسلامي وجغرافيا المسلمين، ولا شك أن المتتبع بعين التأمل المهيمنة على مشهد الخروج يقف أول ما يقف على تماثل الأدوار وتجانس موضوعات الخروج وتشاكل أنفاس الخارجين.
ولربما أسدى لنا إعلامهم لا إعلامنا الإسلامي المحاصر حسنة النقل عبر الأثير خبر أو صورة، أو صوت أو رائحة من يتكلمون هناك وهنالك، كما هنا في وقت واحد ولون واحد عن ظلم الإسلام للمرأة؛ في قضية فروض الإرث؛ وكذا منافحة من يدافع هناك وهنالك وهنا عن حق المُسافِحة في الإجهاض، وحق المثليين في عيش بهيمية سلوكهم في أمان واطمئنان، وربما وصلنا الخبر عن خروج من يطعن ويشكك في رواية بله صحبة أبي هريرة رضي الله عنه، وينبز بتطرف البخاري في دعوى لمّ شمل الصحيح من خبر سيد المرسلين.
ولعل حسنة النقل هذه هي التي جادت علينا بالإحاطة علمًا ومعلومة، أنه ما يسكت أحدهم في مصر حتى يصيح الثاني في ليبيا ثم بالترتيب والتعقيب، يعلو صوت الثالث في تونس بينما يتربض رابع في أقصى المغرب بعين التهمة والزعم، ناهيك عما يقع في الخليج العربي بله أرض التوحيد ومهبط الوحي ومهوى نفوس المسلمين.
ولعل سؤالاً يطرح نفسه بإلحاح: ذلك السؤال الذي يبحث في السر وراء اطراد الخروج واستيعاب الركز الحائف بالترتيب والتحيين، لكل محيطنا الإسلامي، وهل كان خروجًا بريئًا عفوي القصد متشاكل اللحن المعزوف هنا وهناك، وفي كل بلد يتنفس أهله رَوْح الإسلام العظيم؟
فلنفترض بغباء خامر أن هذا الاطراد والاستيعاب عفوي الفرية سليم الطوية، بريء القصد والنية.. لكن هل يسلم لنا هذا الافتراض عند تكرر وقوع هذا الضجيج المنظم، وتكرر تحيين ركزه وانتقاله كالعدوى بعد ترادف الحين على الحين من بلد إلى آخر، تكرر يصرف الهمم ويستنزف القوى ويثني عزائم الأشراف ويحول بينهم وبين المقصود أصالة من نشر التدين وإظهار السنن وبث معالم هذا الدين، وفرض أحكامه على مناحي الحياة ودروب العيش كافة.
ولنأخذ كمثال على هذا وتقريبًا لمقصود الصورة وذلك من خلال التأريخ لخرجات اليساري أمين عام حزب الاتحاد الاشتراكي (إدريس لشكر)، فخلال هذه السنة وبشكل متكرر غير مقيد بحادث ولا مناسبة أطل علينا في غضون فترة لا تتجاوز الشهور المرة والمرتين والثلاث، ليعلنها بكل صفاقة أمام مكاء وتصدية نسوة حزبه متهمًا أنصبة الإرث بالميل عن جادة العدل، والسوية في ما يخص المرأة، لتترادف بعد هذا الإعلان أصوات الاحتجاج والدفع بغير التي هي أحسن، ولتتماهى جماعة الخير مع هذا الصوت الناعق والسعي الآبق.
ولسنا ننكر على من استعجل المواجهة، فلا شك أنه كفى المؤنة وقرت برده أعين مخبتة منيبة، ولكن الاستدراك قد يكون ذا بال لا وبال، متى ما حصل به التوجيه والذكرى التي تعيد الصراع إلى بؤرة الموقد الأول، والقصد الذي عليه المُعوّل، قصد صناعة الجيل الديِّن الملتزم بصفاء الإسلام وصحيح المعتقد، ذلك الجيل القادر على تحويل ما تسلمناه نحن بسند ينتهي إلى تاريخ سقوط الخلافة الإسلامية كطقس ديني تعبدي محض إلى شريعة جامعة مانعة، فإن هذا ولا ريب سيكون له الأثر البالغ في إعادة التمكين إلى أمة الوسط، وسيستنزف قوة الخصم وسيحول دون مُضي غزوه المتكرر في طريقه المتسارع.
ولا شك أن الانتماء إلى الغرب هو إغراء يراود نفوس الخارجين، ويبقى مكس الانتماء هذا باهظ الثمن، ولذلك فلا غرابة أن يبيع الراغب في الانتماء الجديد شتى إيمانه، وتصير مواجهته مع الدين مواجهة عارية السوءة سافرة الوجه الصافق الصلد.
وجدير بالذكر أن مطلب هذا الانتماء هو العامل المحرك الحامل على إبداء البغضاء وما كانت تخفيه الصدور قديمًا وما تحسبه الهامات اليوم، فأبناء الجلدة باتوا لا يحسبون المسلمين في محافلهم إلا أعرابًا متوحشين، والإسلام ليس إلا شريعة تخاصم الحياة وتشيع في معشر المسالمين شريعة جز الرقاب وقطع الجوارح من خلاف، وتدفع بالراغبين في الحور العين إلى الانفجار في الأسواق ومدارس الأطفال وملتقيات السلام، وليس ينتظر حَسَنُ الظن عن غبن تحرك القوم عن هذا الموقف والانطباع قيد الأنملة، فالعداوة لرسالة الإسلام باقية ومشروع الإزدراء على المنتسبين إليه أزلية العهد والوعد مصداقًا لقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة من الآية:217].
ولذلك فحري بمن وقف على هدف القصد المنشود، وهو سوقنا بالإكراه والتدليس إلى ساحة الفجور باسم التحرير والانسلاخ عن القيم والأخلاق، باسم التحضر والتحصين من التطرف، لنعلن ارتدادنا وبراءتنا من الانتساب الشريف، ولنسجل بعد ذلك الرسم والاسم على قائمة الانتماء الجديد، حيث لا حرام ولا حلال، ولا مقدس ولا مدنس، ولا حساب ولا عقاب، وإنما الاستعباد والانحناء حد السجود لغرنيق الحرية، وصنم الحقوق التي لا تبقي ولا تذر اللواحة للبشر في محاضن الهلاك المبين..
حري به في دائرة التدافع الشرعي لا الكوني أن يرشد المجهود ويصوب الرمي، ويعتصم بحبل الله المتين مستشرفًا الغلبة، مؤمنًا بحكم الله الحاسم تحقيقًا لا تعليقًا عند الدفع بحقه باطل غيره، مصداقًا لقول الله تعالى: {فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد:17].