لماذا تنزل يدك؟ ولماذا ترفع رأسك؟
مدحت القصراوي
كم من قلب عصيّ أحياه فرحمك به، وكم من غافل أيقظه فنفعك به، وكم من ضعيف قواه لأجلك أو متكبر أذله من أجلك، كم من سبب ذلّله لك، وكم من أحداث طوّعها من أجلك، وكم عجّل هذا وأخّر ذاك من أجلك، ألم تلمس رحمته مرات ومرات كأنك تمسكها، ألم تشعر برحمته تلفّك وتحتضنك وتحملك حملاً؟ عندما تدعو أنت تتوجه إلى خالق كل حدث، والقيوم على كل قلب وخالق كل دمعة أو فرحة أو ضحكة.
- التصنيفات: الذكر والدعاء -
أتدري معنى الدعاء؟
أن تتوجه إلى الذات التي تملك القوة المطلقة والعلم المطلق، والرحمة المطلقة والحكمة البالغة، إلى من يستحق الحمد على كل قدَر يقدّره، من يستحق الحمد إذا فعل وإذا لم يفعل فعن قصد وحكمة وعلم، فعل هذا ولم يفعل ذاك، ولا يغيب ولا يسهو، ولا تنقص رحمته ولا تضعف قدرته، ولا ينقصه عطاء ولا يستكثر خيرًا يعطيه ولا يحتاج إلى أحد، أن تتوجه إلى من لا غنيّ إلا من قدّر هو غناه، ولا قويّ إلا من قدّر هو قوته.
يعجّل لحكمة ويؤخر لحكمة، فإذا علمتَ طرفًا من حكمته لماذا عجل هذا القضاء دون غيره حمدته، وقلت لم أكن أعلم أن فيها هذا الخير والحكمة والرحمة، ويؤخر لحكمة؛ فإذا علمتَ طرفًا لماذا أخّر ما أخّره، وما فيه من العلم والرحمة والحكمة حمدته واستصغرت نفسك، وقلت لم أكن أعلم ما فيه من هذا الخير العظيم.
عندما تدعو أنت تتوجه إلى من أجرى الخلق على الصورة التي تراها، وهي ليست صورة آلية، بل هي صورة حية نابضة، فإنه تعالى خلق أمورًا مباشرة بلا سبب، وخلق أمور علّقها تعالى بأسباب، فطاعة بعض خلقه سبب يقدر به ما يشاء، ومعصية بعض خلقه سبب يقدر به ما يشاء، ومن وراء كل هذا حكمته التي تحيط بالجميع.
كل يوم هو في شأن، وكل لحظة هو في شأن كذلك؛ فهو تعالى فوق عرشه، خلقه بين يديه، هو أقرب إلى أحدهم ومحيط بهم، بقدرته وسمعه وبصره وعلمه ورحمته وتدبيره، باطن كل شيء بادٍ له فلا يحجزه شيء عن شيء، وهو يحيط بكل شيء حيث لا يحيط الشيء بنفسه.
في كل لحظة يغفر ذنبًا ويستر عيبًا ويفك عانيًا، ويشفي مريضًا ويهلك ظالمًا ويعلّم جاهلًا ويرد غائبًا، ويفرج كربًا وينفث همًا ويغني فقيرًا ويعز ذليلاً ويحبط كيدًا، ويطفىء حربًا ويفلح سعيًا ويرد معتديًا، كل ورقة تسقط بإذنه وكل رطب ويابس بإذنه، وكل حركة وسكنة بإذنه.
عندما تتوجه إليه بالدعاء فأنت تتوجه إلى من بيده كل شيء ويُجري المقادير بما شاء، تتوجه إلى القوة التي هي فوق كل قوة، والرحمة التي هي فوق كل رحمة، بل برحمته، بل بجزء من رحمته تتراحم الأمهات ويتراحم الخلق جميعًا، وتتوجه إلى العليم الذي وسع علمه كل معلوم، والسميع الذي وسع المسموعات بأسرها، والبصير الذي وسع المبصَرات كلها، ما نبصر منها وما لا نبصر، لو تقبّل دعوتك لأجرى المقادير ووجه القلوب وأنطق الألسنة وفتح الأبصار وأسمع الآذان، وخلق من الأسباب ما يجيب دعوتك.
كم من قلب عصيّ أحياه فرحمك به، وكم من غافل أيقظه فنفعك به، وكم من ضعيف قواه لأجلك أو متكبر أذله من أجلك، كم من سبب ذلّله لك، وكم من أحداث طوّعها من أجلك، وكم عجّل هذا وأخّر ذاك من أجلك، ألم تلمس رحمته مرات ومرات كأنك تمسكها، ألم تشعر برحمته تلفّك وتحتضنك وتحملك حملاً؟ عندما تدعو أنت تتوجه إلى خالق كل حدث، والقيوم على كل قلب وخالق كل دمعة أو فرحة أو ضحكة.
يبقى الأمر كله كيف تدخل عليه، وكيف ترضيه وتسترضيه، وبأي اسم تدعوه وبأي انكسار قلب، وبأي رداء عبودية تدخل إلى حضرته، وتبحث كيف دعاه الصالحون قبلك وكيف دعاه من استجاب دعاءه قبلك، هذا هو ما يجب أن يشغلك، هل تدخل عليه دخول عبد قد شهد فقر نفسه وذلها ويقينه بهلاكها إن لم يدركه ربه؟ في هذا فابحث وراجع، إن كان هذا هو ربنا الذي ندعو؛ فلماذا تكف عن دعائه فتنزل يدك المرفوعة؟ أو ترفع رأسك الساجد؟!