الصدق في الإخلاص
أبو محمد بن عبد الله
فمن أراد أن يكون لإخلاصه نفعٌ وديمومة، ومصداقية عليه أن يصدق في إخلاصه، لا أن يخادع الله تعالى، وهو لا يُخادَع فإنه ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص. وقد جاء من كلمة الصدق ومشتقاتهافي القرآن نحوٌ من مائة وخمسين مرة (150 مرة)، بينما جاء في الإخلاص نحو الواحد والأربعين مرة (41) فقط
- التصنيفات: التصنيف العام - الدعوة إلى الله -
يجب أن نصدق في إخلاصنا، وإخلاصنا يحتاج إلى صدق.. قد يُستغرب هذا القول، حيث إن أعلى ما يصل إليه الشخص هو الإخلاص! فكيف يحتاج الإخلاص إلى صدق؟ لكن هاهنا لطيفة مهمة ينبغي التفطن لها، ألا وهي علاقة الصدق بالإخلاص، ومن باب توضيح الفكرة نضرب أمثلة أولا، ذلك أن الكل يفرق بين حب الوالد لولده، حيث أنه يظل يحتفظ بأصل هذا الحب وإن تغيرت عاطفته نحوه بين فترات رضاه عنه وغضَبِهِ عليه، وحتى العاقّ لأمه إذا ألمَّت به أزمة أو وقع في ورطة سعت-ولو بالدموع والدعاء- في تفريجها عنه وإخراجه منها... وهذا من صدق حب الوالدين لأولادهم إلا من شذَّ والعياذ بالله.
محبة أخرى غير صادقة؛ يزعمهما أهل الفسق والجهالة، وهي دعوى المحبة بين جنسين، وتطلق العبارات المعسولة وتلين الجنوب وتفتح الجيوب وقد تذوب القلوب!.. إنه يحبها يُغلِّظ على ذلك الأيمان ويقدم البرهان!.. لكن كم تنشر الجرائد من جرائمَ قتلِ مُحِبٍّ لحبيبته! لماذا؟ لأنها (خانته!) وتزوجت بآخر أو تعوجت لآخر. من هنا يتبن أنه لم يكن صادقا في محبته، وإنما أحبَّ لغرض وهدف رخيص لم يكن ليصل إليه إلا بادِّعاء هذا الحب الذي مرض به هو نفسه وملك عليه قلبه ومشاعره!
بل قد تدَّعي زوجةٌ حبَّ زوجها، وتتغني به وتتحدَّث به في المجالس، وحالة ما إذا فقد ماله البحبوح أو منصبه المرموق، فإذا هي تصدُّ عنه صدودًا، تبتغي بدلا، وفي الرجال مثلهن!، بينما صدقت نساء في حبِّ أزواجهن والوفاء لهم حتى مكثت إحداهن العقود تنتظر عودة زوجها من غيبة مفقود، أو شفاءً من مرض ميئوس، وإن افتقر قالت: إنما توجتُك ولم أتزوج مالك أو منصبك، فنِعِمَّ هي.
صلى وصام لأمر كان يطلبه * * * فلما انقض الأمر ما صلى ولم يصُمِ
كذلك نقول في الإخلاص- ولله المثَلُ الأعلى- فمن الناس من يخلص لله لأنه الله رب العالمين وإله الخلق أجمعين، الحقيق بإخلاص العبادة، وهذا لا يزعزع إخلاصه سراءُ ولا ضراء.. ومن الناس من يخلص لله تعالى لا من المنطلق السابق، ولكن من منطلق الحاجة التي يوقن-أو يحسب- أنه لا يجدها إلا عند الله-تعالى- ولا يصل إليها إلا بالإخلاص له، ولعله هو المثال المضروب والموقف المحكي في القرآن الكريم لقوم مشركين متمردين على الله –سبحانه- لا يوحدونه بعقد ولا قول ولا فعل. ولكنهم حين تنكشف لهم حقائق شركائهم وتنقطع بينهم أسبابهم، يعودون إلى الله بالدعاء له مخلصين، يطلبون النجاة ويتعهدون بالتوحيد، لكن سرعان ما ينقضون العهود ويعودون إلى المعهود!
قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[يونس:22-23] قال القرطبي-رحمه الله-: {لئن أنجيتنا من هذه الشدة التي نحن فيها لنكونن من الشاكرين لك على نعمك وتخليصك إيانا مما نحن فيه بإخلاصنا العبادة لك وإفراد الطاعة دون الآلهة والأنداد} تفسير القرطبي:11/100]، وكقوله عز شأنه: {إِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ، لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:65-66]، وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}[لقمان:32]، قال الطبري-رحمه الله-: "خلصوا الدعاء لله هنالك دون أوثانهم وآلهتهم وكان مفزعهم حينئذ إلى الله دونها"، وقال ابن كثير-رحمه الله-: "دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه أي هذه الحال لنكونن من الشاكرين أي لا نشرك بك أحدا ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء ههنا قال الله تعالى فلما أنجاهم أي من تلك الورطة إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق أي كأن لم يكن من ذلك شيء كأن لم يدعنا إلى ضر مسه"[تفسير ابن كثير:2/413].
فكانوا مُضطرين إلى هذا الإخلاص محتاجين إليه، لا صادقين فيه، ودليله أنه لمَّا كشف الله ما بهم نكصوا وعادوا من الإخلاص إلى الشرك القديم!
وقد كثر ذكر الصدق والإخلاص في نصوص الشرع من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكان أكثرها، فقد جاء من كلمة الصدق ومشتقاتها في القرآن نحوٌ من مائة وخمسين مرة (150 مرة)، بينما جاء في الإخلاص نحو الواحد والأربعين مرة (41) فقط، وكثيرًا ما يقرن أرباب السلوك والرقائق والعقائد بين الصدق والإخلاص، وما ذاك إلا لأنهما متلازمان، لا يستغني أحدهما عن الآخر، وإن كان أحدهما أصل والآخر فرع، وقد جاء هذا في الفرق بينهما، و"الفرق بين الإخلاص والصدق: أن الصدق أصل؛ وهو الأول، والإخلاص فرع؛ وهو تابع"[الجرجاني؛ التعريفات، 14]. وقد عقد الإمام ابن القيم عنوانًا في الفرق بينهما، قال بعد تعريفِ كلٍّ منهما: "ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص، ولا يتمان إلا بالصبر"[مدارج السالكين: 2/ 91].
فمن أراد أن يكون لإخلاصه نفعٌ وديمومة ومصداقية؛ فعليه أن يصدق في إخلاصه، لا أن يخادع الله تعالى، وهو لا يُخادَع، وإنما قد يُملي لبعض عباده فيظنون أنهم خدعوه سبحانه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة:9]، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}[النساء: 142].
اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل, وارزقنا الصدق ظاهرًا وباطنًا.
8 رمضان 1436 (25/6/2015)