أعظم آفات القلوب

صلاح الدين علي عبد الموجود

فالشرك بحوره عاتية كبيرة وغوائله مهلكة رهيبة لا يغفر منه قليله ولا
كثيره صاحبه في الدرك الأسفل من النار- أعاذنا الله منه....

  • التصنيفات: تربية النفس -

فآفات القلوب لا يحصرها العد وأصولها تنحصر في أصلين عظيمين هما (الشبهات)، وَ(الشهوات) ولو وقعت منهما قطرة في قلب العبد أتلفته.

ويتفرع من هذين المرضين علل وَآفات قد يصعب معها العد، منها ما يتعلق بالشبهات، وَمنها ما يتعلق بالشهوات، وَمنها ما هو خليط منهما. وَقد جاء في الكتاب وَالسنة جملًا منها، فقد جعل الله كتابه هو الدواء لجميع أدواء القلوب.

قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].

وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت: من الآية 44].

ومن أشد هذه الآفات خطرا وأعظمها ضررا:

الشرك:
الشرك: لغة: يقال شَرِكْتُه في الأمر أشْرَكُه شِرْكة، والاسمُ الشِّرك. وشاَرَكْته إذا صِرْت شَرِيكه. وقد أشْرك باللّه فهو مُشْرِك إذا جعل له شريكا.

وَشرعا: جعل لله شريكاً، تَعَالَى الله عَنْ ذلك، وَالاسم الشِّرْكُ.

وَقال الـجوهريّ: "الشِّرْك الكفر".

وقد عرفه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كما روي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟، قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: "إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ". قُلْتُ: "ثُمَّ أَيُّ؟"، قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: "ثُمَّ أَيُّ؟"، قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ». [رواه البخاري(4477)].

وهو من أخطر آفات القلوب بل هو أخطرها على الإطلاق، إذ صاحبه خالدًا مخلدًا في النار، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء: 116].

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72].

قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31].

قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:43].

قَالَ ابن القيم: "فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلظة، وَنجاسة مخففة.

فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ.
وَالمخففة: الشرك الأصغر كيسير الرياء، وَالتصنع للمخلوق، وَالحلف به، وَخوفه، وَرجائه".

وَنجاسة الشرك عينية، وَلهذا جعل سُبْحَانَهُ الشرك نجَسًا - بفتح الجيم، وَلم يقل: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نجِس -بالكسر، فَإِنَّ النجَس عين النجاسة، وَالنجِس بالكسر هو المتنجس، فالثوب إذا أصابه بول, أَوْ خمر نجِس، وَالبول وَالخمر نجَس، فأنجس النجاسة الشرك، كما أنه أظلم الظلم، فَإِنَّ النجس في اللغة وَالشرع هو المستقذر الذي يطلب مباعدته وَالبعد منه بحيث لا يلمس وَلا يشم وَلا يرى فضلًا أن يخالط وَيلابس لقذارته وَنفرة الطباع السليمة عنه، وَكلما كان الحق أكمل حياة وَأصح حياء كان إبعاده لذلك أعظم وَنفرته منه أقوى.

فالأعيان النجسة إما أن تؤذي البدن, أَوْ القلب, أَوْ تؤذيهما معا، وَالنجس قد يؤذي برائحته وَقد يؤذي بملابسته وَإن لم تكن له رائحة كريهة.

والمقصود: أن النجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، وَتارة تكون معنوية باطنة، فيغلب على الروح وَالقلب الخبث، وَالنجاسة حتى إن صاحب القلب الحي ليشم من تلك الروح وَالقلب رائحة خبيثة يتأذى بها كما يتأذى من شم رائحة النتن، وَيظهر ذلك كثيرًا في عرقه، حتى ليوجد لرائحة عرقه نتنًا، فَإِنَّ نتن الروح وَالقلب يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره، وَالعرق يفيض من الباطن، وَلهذا كان الرجل الصالح طيب العرق، وَكان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطيب النَّاسِ عرقًا، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عِنْدَنَا فَعَرِقَ وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ فَجَعَلَتْ تَسْلِتُ الْعَرَقَ فِيهَا فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ»، قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ. [رواه مسلم(2331)].

فالنفس النجسة الخبيثة يقوى خبثها وَنجاستها حتى يبدو على الجسد، وَالنفس الطيبة بضدها، فإذا تجردت وَخرجت من البدن وَجد لهذه كأطيب نفحة مسك وَجدت على وَجه الأرض، وَلتلك كأنتن ريح جيفة وَجدت على وَجه الأرض.

والمقصود: أن الشرك لما كان أظلم الظلم، وَأقبح القبائح، وَأنكر المنكرات كان أبغض الأشياء إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَأكرهها له، وَأشدها مقتًا لديه، وَرتب عليه من عقوبات الدنيا وَالآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه.

أنواع الشرك:
الشرك ينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ وَكل منها قد يكون أكبر وَأصغر مطلقًا، وَقد يكون أكبر بالنسبة إلى ما هو أصغر منه، وَيكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه.

القسم الأول: الشرك في الربوبية وَهو نوعان:
أحدهما: شرك التعطيل وَهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فِرْعَوْن إذ قَالَ {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، وَمن هذا شرك الفلاسفة القائلين: بقدم العالم وَأبديته، وَأنه لم يكن معدومًا أصلًا بل لم يزل وَلا يزال، وَالحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب وَوسائط اقتضت إيجادها يسمونها: العقول وَالنفوس، ومن هذا شرك طائفة أهل وَحدة الوجود كأصحاب ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني والبلياني وغيرهم، وَنحوهم من الملاحدة الذين كسوا الإلحاد حلية الإسلام وَمزجوه بشيء من الحق حتى راج أمرهم على خفافيش البصائر.

ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب وَأوصافه من غلاة الجهمية.

النوع الثاني: شرك من جعل معه إلها آخر وَلم يعطل أسماءه وَصفاته وَربوبيته، كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، وَشرك المجوس القائلين: بإسناد حوادث الخير إلى النور، وَحوادث الشر إلى الظلمة.

ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات وَيجعلها مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وَغيرهم.

ويلتحق به من وَجه شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت، فيقضون الحاجات، وَيفرجون الكربات، وَينصرون من دعاهم، وَيحفظون من التجأ إليهم، وَلاذ بحماهم، فَإِنَّ هذه من خصائص الربوبية.

القسم الثاني: الشرك في توحيد الأسماء وَالصفات وَهو أيسر مما قبله وَهو نوعان:
أحدهما تشبيه الخالق بالمخلوق كمن يقول يد كيدي، وَسمع كسمعي، وَبصر كبصري، وَاستواء كاستوائي، وَهو شرك المشبهة.

الثاني: اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180].

قَالَ ابن جرير: "وأما قوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}، فإنه يعني به المشركين".

وكان إلحادهم في أسماء الله، أنهم عدَلوا بها عمّا هي عليه، فسموا بها آلهتهم وأوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، فسموا بعضها "اللات" اشتقاقًا منهم لها من اسم الله الذي هو "الله"، وسموا بعضها "العُزَّى" اشتقاقًا لها من اسم الله الذي هو "العزيز".

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: ثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}، قال: "إلحاد الملحدين: أن دعوا "اللات" في أسماء الله".

القسم الثالث: الشرك في توحيد الألهية وَالعبادة:
وهو أصل الشرك وأخطره وأعظمه، وبه الخلود في النار، ولا يغفره الله أبدا.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48].

وَأصل الشرك المحرم اعتقاد شريك لله تَعَالَى في الألهية وَهو الشرك الأعظم وَهو شرك الجاهلية، وَيليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تَعَالَى في الفعل وَهو قول أن يجعل لله ندًا يعبده كما يعبد الله، وَهذا هو الشرك الأكبر، وَهو الذي قَالَ اللهُ فيه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36].

وَقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].

وقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4].

والآيات في النهي عَنْ هذا الشرك وَبيان بطلانه كثيرة جدًا:
قَالَ ابن القيم رحمه الله: "والشرك الأكبر: وَهو أن يتخذ من دون الله ندًا يحبه كما يحب الله، وَهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين، وَلهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97-98]، مع إقرارهم بأن الله وَحده خالق كل شيء، وَربه، وَمليكه، وَأن آلهتهم لا تخلق، وَلا ترزق، وَلا تحيي، وَلا تميت، وَإنما كانت هذه التسوية في المحبة، وَالتعظيم، وَالعبادة، كما هو حال أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوداتهم، وَيعظمونها، وَيوالونها من دون الله، وَكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، وَيستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وَحده، وَيغضبون لمنتقص معبوديهم وَآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحدٌ رب العالمين، وَإِذَا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم وَمعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حَرِدَ "إذا حَرِدَ: أي إذا غضب"، وَإِذَا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها، بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه، وَلم تتنكر له قلوبهم، وَقد شاهدنا هذا نحن وَغيرنا منهم جهرة، وَترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه وَمعبوده من دون الله على لسانه ديدنًا له إن قام، وَإن قعد، وَإن عثر، وَإن مرض، وَإن استوحش، فذكْر إلهه وَمعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه وَلسانه، وَهو لا ينكر ذلك، وَيزعم أنه باب حاجته إِلَى اللهِ وَشفيعه عنده وَوسيلته إليه. .

السلامة في التوحيد ومتابعة الرسول:
وَيجب أن يُعلم أنه لا يُرضى من القول وَالعمل إلا التوحيد وإتباع الرسول، وَعن هاتين الكلمتين يسأل الأولين وَالآخرين، كما قَالَ أبو العالية: "كلمتان يسأل عنهما الأولون وَالآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟، وَماذا أجبتم المرسلين؟".

فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وَعاها وَعقلها: لا شفاعة إلا بإذنه.
وَلا يأذن إلا لمن رضي قوله وَعمله.
وَلا يرضى من القول وَالعمل إلا توحيده وإتباع رسوله.

فالله تعالى لا يغفر شرك العادلين به غيره كما قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1].

وَأصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة، وَالموالاة، وَالمحبة، كما في الآية الأخرى: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98]، وَكما في آية البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165].

تشابهت أقوال المشركين:
وَترى المشرك يكذب حاله وَعمله قوله، فَإِنَّهُ يقول: لا نحبهم كَحُبِّ اللّهِ، ولا نسويهم بالله، ثم يغضب لهم وَلحرماتهم إذا انتهكت أعظم مما يغضب لله، وَيستبشر بذكرهم وَيتبشبش به سيما إذا ذكر عَنْهُم ما ليس فيهم: من إغاثة اللهفات، وَكشف الكربات، وَقضاء الحاجات، وَأنهم الباب بين الله وَبين عباده، فإنك ترى المشرك يفرح وَيسر، وَيحن قلبه، وَتهيج منه لواعج التعظيم، وَالخضوع لهم وَالموالاة، وَإِذَا ذكر له الله وَحده وَجرد توحيده لحقته وَحشة وَضيق وَحرج، وَرماك بنقص الإلهية التي له، وَربما عاداك، رأينا وَالله منهم هذا عيانًا، وَرمونا بعداوتهم، وَبغوا لنا الغوائل، وَالله مخزيهم في الدنيا وَالآخرة، وَلم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قَالَ إخوانهم: عاب آلهتنا، فقال هؤلاء: تنقصتم مشايخنا، وَأبواب حوائجنا إِلَى اللهِ. وَهكذا قَالَ النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم لما قَالَ لهم: إن المسيح عبد الله. قالوا: تنقصت المسيح وَعبته. وَهكذا قَالَ أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانًا تُعبد وَمساجد تُقصد، وَأمر بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه وَرسوله قالوا: تنقصت أصحابها.

فانظر إلى هذا التشابه بين قلوبهم حتى كأنهم قد تواصوا به، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف: 17].

نسج المشركين كنسج العنكبوت:
وَقد قطع الله تَعَالَى كل الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعًا قطعًا يعلم من تأمله وَعرفه: أن من اتخذ من دون الله وَليًا, أَوْ شفيعًا فهو {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [الْعَنكَبُوتِ: 41].

فقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22-23].

فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يعتقد أنه يحصل له به من النفع، وَالنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع:
إما مالك لما يريده عابده منه.
فَإِنَّ لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك.
فَإِنَّ لم يكن شريكًا له كان معينًا له وَظهيرًا.
فَإِنَّ لم يكن معينًا وَلا ظهيرًا كان شفيعًا عنده.

فنفى سُبْحَانَهُ المراتب الأربع نفيًا مترتبًا متنقلًا من الأعلى إلى ما دونه، فنفى الملك، وَالشركة، وَالمظاهرة، وَالشفاعة التي يظنها المشرك، وَأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وَهي الشفاعة بإذنه، فكفى بهذه الآية نورًا وَبرهانًا وَنجاةً وَتجريدًا للتوحيد، وَقطعًا لأصول الشرك وَمواده لمن عقلها، وَالقرآن مملوء من أمثالها وَنظائرها، وَلكن أكثر النَّاسِ لا يشعرون بدخول الواقع تحته، وَتضمنه له، وَيظنونه في نوع وَفي قوم قد خلوا من قبل وَلم يعقبوا وَارثًا، وَهذا هو الذي يحول بين القلب وَبين فهم القرآن، وَلعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد وَرثهم من هو مثلهم, أَوْ شر منهم أَوْ دونهم، وَتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، وَلكن الأمر كما قَالَ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، وَهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية وَالشرك وَما عابه القرآن وَذمه: وَقع فيه، وَأقره، وَدعا إليه، وَصوبه، وَحسنه، وَهو لا يعرف: أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية, أَوْ نظيره, أَوْ شر منه, أَوْ دونه فينقض بذلك عرى الإسلام عَنْ قلبه، وَيعود المعروف منكرًا، وَالمنكر معروفًا، وَالبدعة سنة، وَالسنة بدعة، وَيكفر الرجل بمحض الإيمان وَتجريد التوحيد، وَيبدع بتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وَمفارقة الأهواء وَالبدع، وَمن له بصيرة وَقلب حي يرى ذلك عيانًا - وَالله المستعان.

الثاني: الشرك الأصغر وَهو شرك لا يُخرج من الملة؛ لكنه يُنْقص التوحيد، وَهو وَسيلة إلى الشرك الأكبر، وَهو قسمان:

القسم الأول: شرك ظاهر على اللسان وَالجوارح، وَهو: ألفاظ وَأفعال، فالألفاظ:
كحَلَفٍ بِغَيْرِ اللَّهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَا وَالْكَعْبَةِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لَا يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ» [رواه أبو داود(3251) الترمذي(1535)، وَحسنه، أحمد(2/67) ابن حبان(10/4358) وَصححه الحاكم"المستدرك"(1/65)].

وَقول: ما شاء الله وَشئت، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ". فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَجَعَلْتَنِي وَاللَّهَ عَدْلًا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» [حسن: رواه أحمد (1/214) البخاري"الأدب المفرد"(783) ابن أبي شيبة"المصنف"(5/26621) السنن الكبرى(3/217) الطبراني"المعجم الكبير"(12/13005)].

وَقول: لولا الله وَفلان، وَالصوابُ أن يُقالَ: ما شاءَ الله، ثم شاء فلان؛ وَلولا الله، ثم فلان، لأن «ثم» تفيدُ الترتيب مع التراخي، وَتجعلُ مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله، كما قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29].

وأما الأفعال: فمثل لبس الحلقة، وَالخيط لرفع البلاء, أَوْ دفعه، وَمثل تعليق التمائم خوفًا من العين وَغيرها؛ إذا اعتقد أن هذه أسباب لرفع البلاء, أَوْ دفعه، فهذا شرك أصغر؛ لأن الله لم يجعل هذه أسبابًا، أما إن اعتقد أنها تدفع, أَوْ ترفع البلاء بنفسها؛ فهذا شرك أكبر لأنه تَعلَّق بغير الله.

القسم الثاني من الشرك الأصغر: شرك خفي، وَهو الشرك في الإرادات، وَالنيات، كالرياء، وَالسمعة، كأن يعمل عملًا مما يُتقرب به إلى الله؛ يريد به ثناء النَّاسِ عليه، كأنه يُحسن صلاته، أَوْ يتصدق؛ لأجل أن يُمدح وَيُثنى عليه، أَوْ يتلفظ بالذكر وَيحسن صوته بالتلاوة لأجل أن يسمعه النَّاسِ، فيُثنوا عليه وَيمدحوه. وَالرياء إذا خالط العمل أبطله، قَالَ اللهُ تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110].

عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ»، قَالُوا: "وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ"، قَالَ: «الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً» [صحيح: رواه أحمد(5/429)].

والرياء لا يسلم منه إلا القليل فقد تجد الرجل يصلي مبتدءاً صلاته بنية خالصة لله ثم تتحول نيته عندما يسمع صوتاً فيحسن صلاته، وَهو أدق من دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء. وَفي الحديث القدسي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» [رواه مسلم (2985)].

عَنْ جُنْدَبٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» [رواه البخاري (6499)].

ومنه: العملُ لأجل الطمع الدنيوي، كمن يحج, أَوْ يؤذن, أَوْ يؤم النَّاسِ لأجل المال، أَوْ يتعلم العلم الشرعي، أَوْ يجاهد لأجل المال.

كما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ» [رواه البُخَارِي(2887)].

فالشرك بحوره عاتية كبيرة وغوائله مهلكة رهيبة لا يغفر منه قليله ولا كثيره صاحبه في الدرك الأسفل من النار- أعاذنا الله منه.

(من كتاب القلوب وآفاتها للشيخ)

محمد صلاح عبد الموجود








المصدر: موقع الشيخ صلاح