(1) بين ما تريد منه وما يراد لك به
هدى عبد الرحمن النمر
من أكبر العوائق النفسية في حسن التعامل مع شهر رمضان المبارك، أننا نغفل عن المقصد الذي أراده الله منه، ونغرق في تصورات خاطئة متوارثة عنه، يقول الله تعالى في ختام الآية التي نزلت عن شهر رمضان: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
- التصنيفات: ملفات شهر رمضان -
تخيل أنك مقبل على سباق طويل، وقيل لك إن أمامك محطة واحدة فقط على طول الطريق لتتزود بالوقود وكافة ما تحتاج من زاد، ثم لا سبيل بعد ذلك للمؤونة، والأهم أنه لا يسمح لك بالمكث عندها سوى فترة محدودة، ستظل طوال الطريق إلى تلك المحطة مشحون الفكر بكل ما ينبغي لك التزود به، والمفاضلة بين الأولويات في حال ضاق عليك الوقت، حتى إذا بلغتها فلربما لشدة لهفتك على تنظيم أقصى استفادة منها، تفاجئ بأنك تلهث في فوضى ذات اليمين وذات الشمال، وإذا بالوقت المحدد انتهى ولم تتزود كما كنت ترجو..
قارن تلك الحالة بمن هو في ذات السباق، لكن طريقه عامر بمحطات الوقود، والمحطة المذكورة أعلاه هي المحطة (الكبرى) للتزود الموسع، وأعطي نفس الوقت المحدد الذي أعطاه زميله، لا ريب أن تعامل هذا مع الوقت والمحطة يكون مختلفًا، أكثر رزانة واطمئنانًا، لأنها ليست الفرصة الوحيدة للمؤونة ولكن الفرصة الكبرى، وبالتالي سينصرف تركيزه للتزود بما قد لا يتوافر عادة كما وكيفًا على طول المحطات الأخرى، والباقي يستدركه لاحقًا.
من أكبر العوائق النفسية في حسن التعامل مع شهر رمضان المبارك، أننا نغفل عن المقصد الذي أراده الله منه، ونغرق في تصورات خاطئة متوارثة عنه، يقول الله تعالى في ختام الآية التي نزلت عن شهر رمضان: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة من الآية:185]، لماذا كرر سبحانه نفس المعنى في الشق الثاني من الآية؟
فالذي يريد بك اليسر لا يريد بك العسر، كالذي يقول لك: "أريد منك أن تنجح، أريد منك ألا ترسب"، هذا التكرار التوكيدي مقصود لدفع أي توهم بتلك المشقة البالغة، التي يستجلبها قدوم هذا الشهر الكريم كما يشعر الكثيرون، خاصة مع الحر وطول ساعات النهار هذا العام، هذا الشهر جُعل وأريد يسرًا لك لا عسرًا بك، وإنما العسر يتأتى من سوء الفهم ومعاكسة تصورك للشهر عن الأصل الذي أريد له..
كذلك حينما يقول المولى سبحانه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [البقرة من الآية:185].
فالله جعل هذه الأيام الثلاثين عدة متكاملة، فهي مقصودة في عددها لتحقيق أثر معين متكامل، يكون عدة وعتادًا وتأهيلاً لما بعده، فلا ريب أن الشهر المبارك يراد منه ما يفوق التصورات الهزيلة من الجوع والعطش نهارًا، والتخمة والسهر ليلاً، لاريب أنه يراد في هذا التدريب المكثف تقويم وإقامة نظام حياة معين يصير أصلاً من بعد..
وفي ختام الآية: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة من الآية:185].
الله قد هدانا سبله لكننا نصر على اختراع سبل ما كتبها علينا، وصرف طاقتنا حيث لم ينزل سلطانًا، وهذه الهداية نعمة تستوجب جعل الله أكبر همنا فوق كل هم، ومع ذلك نصر على تكبير هموم أخرى ونحيد عن الأصل الذي عليه البعث والحساب..
فليس من الله ثمة إلزام بختم القرآن عدة مرات في الشهر، لكن ثمة إلزام بالتلاوة الواعية والتعامل معه على أنه كتاب هدى يخاطبنا كما خاطب من قبلنا، وثمة إلزام بعدم هجره طوال العام، ثم محاولة (التعويض) عن ذلك دفعة واحدة هذًا وهذرًا! وليس ثمة إلزام بقراءة كل ما كتب في السيرة، لكن ثمة إلزام باتباع هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام..
فكتاب أو منهاج واحد تتبعه بحرص، وتترقى معه خير من عشرين تقرؤهم للمباهاة بمعرفة لا أثر لها، وليس ثمة إلزام بالتراويح كلها والتهجد كله وتحصيل الفجر وشروقه، كل ذلك في جماعة وبيقظة وانتباه، لكن ثمة إلزام بأن تعقل ما تقول في صلاتك، ولا تضيع حق الفريضة بالسهر لنافلة، وليس ثمة إلزام بالجماعة في غير الفريضة، لكن ثمة إلزام باجتماع القلب في كل صلاة..
ربما ينبغي أن نبدأ في إلزام أنفسنا بما ألزمنا به خالقنا بداية بالكيفية التي يريدها، واحترام حدود الله تعالى أولاً، ونتوقف عن توهم التزامات لا تزيدنا منه إلا بعدًا لقلة الفقه وسوء التطبيق، فالأولويات وترتيبها قد تولاها شارعها، وليست متروكة للهوى والمزاج، والعبادة الصحيحة لا تكون إلا عن علم وبصيرة، وليس كيفما اتفق من الخير.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة من الآية:185].
فأين شكر النعمة والامتنان لله وسط ولائم ترمى بقاياها باستهتار، وامتناع عن الطعام يتبعه انغماس فيه، ونوم في أعقابه صحوة ناعسة، وتلاوة هي تقليب للصفحات وتحريك للشفاه يتخللها غفوات، وصلاة بذهن مشتت ونفس ثقيلة! ربما لأننا لا نرى رمضان نعمة لا يمكننا شكره؟ أين النعمة في التجويع والعطش، والحر والقيام، وترك الملذات واللهو والترفيه؟ هل هذا تصور يعين على استحضار فضل هذا الشهر ونعمته على ما أراده الله تعالى؟!
إذا كان نمط سلوكك وتصرفاتك تشكل أسلوب حياتك العام، فما الذي يشكل أنماط السلوك والتصرفات بداية، بحيث إذا تمكنا من تقويمه استقام السلوك تبعًا له، وتعدّل نظام الحياة من بعد؟
إنها أنماطك الفكرية وتصوراتك الذهنية، وفهمك لطبائع الأشياء والأمور..
كلما قارب هذا الفهم حقيقتها كنت أقرب للسداد في التعامل معها والانسجام مع مقاصدها، مشكلتنا ليست حقيقة في أنماط السلوك والعادات، بل الفكر والفهم والتصور، كما سيتبين لنا في الحلقات التالية بإذن الله بمنهجية تهدف لتصحيح التصورات، ثم بناء الخطوات على أساسها؛ ليكون رمضانك ربيعك هذا العام.
والله تعالى الموفق والمستعان.