السلفية تنفي الخبث عن نفسها

أبو محمد بن عبد الله

إن خَبَثًا كثيرًا الْتصق بالسلفية واعتلاها حتى ما تبين، واعتراها واعتورها حتى ما تصح، في صورة أشخاص يدعون إليها دعوة مغشوشة وينطقون باسمها، تَشَيَّخوا باسمها ويتَبَنَّوْنَها ويحتكرونها دون الناس، وفي صورة تنظيرات قاصرة وفتاواى شاذة وتقعيدات باطلة وتنزيلات حجرية خارج محَالِّها.. كل ذلك أنواعٌ من الخبَث نفته السلفية عن نفسها.. ومَيَّز الله بين طَيِّب ذلك وخبيثِه.

  • التصنيفات: الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة -

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وبعد؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها طيبة- يعني- المدينة، وإنها تنفي الخبث، كما تنفي النار خبث الفضة»(متفق عليه، واللفظ لمسلم). وكان بعض السلف إذا جاءته حاجَةٌ تُخرجه من المدينة المنورة، ذكر هذا الحديث ويبكي؛ خشية أن يكون من الخَبث الذي تنفيه المدينة عنها!

ومناسبة هذا الحديث كما جاءت في الصحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه في هذه الآية: {فما لكم في المنافقين فئتين}[النساء: 88]، قال: "رجع ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مِن أُحُدٍ، وكان الناس فيهم فرقتين: فريق يقول: اقتلهم، وفريق يقول: لا؛ فنزلت: {فما لكم في المنافقين فئتين}[النساء: 88]، وقال: «إنها طيبة-يعني- المدينة، وإنها تنفي الخَبث، كما تنفي النار خَبَثَ الفضة»(البخاري، صحيحه، رقم:[4589]، ومسلم، رقم:[1384])، هكذا رواه المحدِّثون بالجمع بين شَطريه.

   المدينة طَيْبَة، طَيِّبَةٌ، وطيبتُها لا تحتمل وجود الخَبَث فيها. وهل طابت المدينة إلا بما فيها من بركة الإسلام الرحيم والدين القويم والمنهج المستقيم والإيمان المبارك؟! وهل طابت إلا بمن فيها من السلف الصالح المبارك الطيب الكريم، على رأسهم أفضل النبيين عليه أفضل الصلاة وأطيب التسليم، وبمن معه من الصحابة الكرام نواة السلفية الصحيحة الصالحة، وبذرة نبتتها وجذور شجرتها وأطايب ثمرتها.

فَعِلَّةُ طيبتها هو ما فيها من طيب المبدأ والخُلُق، وطَيِّب الصالحين، وعلةُ نفيها للخبث هي طيبتُها نفسها، فالطيبة علةٌ ومعلول؟! فإنها لم تَطِب قبل أن يحل بها هذا.

وإذْ أنَّ الأمر كذلك فإن كلَّ داخلٍ لمدينة "السَّلفية" ومُدَّعٍ-زورًا- نسبتَهُ إليها، فإنها تنفيه عن نفسها، ويذهب زبَدُه جفاءً ويبقى ما ينفع الناس في أرضها، لأنّ السلفية الحقَّة طَيِّبَة تنفي الخَبث كما تنفي النارُ خبث الفضة.

فلقد ادَّعى أقوامٌ أنهم "السلفية" بل احتكروها دون المسلمين، وها هي تُلقيهم وتفضحهم وتكشف عوارهم وتفتن زيفهم، مهما أشْهدوا الله في المجالس والملأ وعلى الهواء أنهم منها وهي منهم!

وقد يقول قائل: ما علاقة حديث  المدينة «إنها طيبة- يعني- المدينة، وإنها تنفي الخبث..» بالسلفية؟!

فلاحظ أيها المتسائل الفاضل في الحديث: أن خلاف الصحابة رضي الله عنهم كان في المنافقين، فأورد الراوي قولَ النبي صلى الله عليه وسلم هذا في المدينة! وفي رواية لهذا الحديث «إنها طيبة تنفي الرجال كما تنفي النار خبث الحديد»(البخاري، صحيح البخاري، رقم:[1884])، وفي حديث أبي هريرة :«أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب، وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد»( البخاري، رقم:[1871]، ومسلم، رقم:[1382]،  الصحيحين)، فهي تنفي الناس والرجال، أي تميِّزهم وتُصفِّيهم، فيظهر أهل الطِّيبة من أهل الخُبْث.

وأترك لك -بعدئذٍ- التنزيل وتحقيق المناط. حيث إنَّ النفاق حركة من داخل الصف وبألوان الصف، لكنها تعمل على نقيض قصده، فتُشَتِّتُ الشملَ، وتَشُلُّ الحركة، وتهدم ما بنى الصالحون في سنين أو عقود، وتقطع الطريق إلى الله وإلى التمكين، ظاهرها مع المسلمين وحقيقتها ومصَبُّ جهدها عليهم وضدهم!

وليس من شرط هذا أن يكون حِسيًّا ماديًّا بأن يخرج الأشخاص خارجها، وإنما يكفي نفيهم عن الصف وتمييزهم ليعرف الناس أنهم دخلاء زمزيَّفون، فقد بقي المنافقون في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأشخاصهم، لكن كشفهم الله تعالى وفضحهم وعُرفت أشخاصهم وأعيانهم من خلال انكشاف صفاتهم ومواقفهم التي ظهر للعيان أن تصب في صالح أعداء الأمة.

ثم لاحظ أن بركة سلفية الجيل الأول ليس لانتماءٍ حزبيٍّ، وإنما لِما هم عليه من الحقِّ والإيمان، ولِمَا أنزل الله عليهم من البركات بهذا الدين وبهذا الرسول الكريم المبارك أينما كان صلى الله عليه وسلم، وأنها في المدينة قامت دولتها الأولى ومنها انتشرت دعوتها في العالمين.. حتى صارت مثالًا يُحتذى، وشَرَف نسَبٍ يَدَّعيه كل أحد.

ثم لاحظ أن دعوة أدعياء السلفية من المدينة بدأت وفيها ظهرت: جامية جهمية، ثم مدخلية مَدخولة! ثم باضت وفرَّخت، وسار بحديثها الركبان، وسرت في الشباب كما تسري النار في الهشيم، ولكنَّ الله سلَّم، فقد نفت الخبث عن نفسها، وظهر داعيتها صِدْقًا مِن دَعِيِّها زورًا، والعاقبة للمتقين(1).

أقول هذا، وفي اعتقادي أن السلفية:

أولًا: ليست هي الإسلام، ولكنها فهمٌ كفهم السلف للإسلام، ومنهجٌ كمنهجهم الجمعي، لا فتاوى كفتاويهم الفردية.

ثانيًا: هي عمل وتطبيق والتزام بكامل الإسلام: دعوة ودولة، محراب وسياسة؛ كتاب هادٍ وسيف ناصر..

ثالثًا: رحمة للعالمين ونصيحة، بشرى وتيسير، لا عُسرى وتنفير.

رابعًا: ذلَّةٌ على المؤمنين  وخفضُ جناحٍ وولاء لهم. وعزة على الكافرين وبراءة منهم، لا العكس كما يحدث من أدعيائها الآن.

وفي اعتقادي أن السلفية أيضًا ليْسَت:

ليست محصورة في مظهرٍ من جلباب وقميص، ولا لحية ونقاب، وإنْ كان ذلك من الإسلام، على تفاوتٍ في أحكامها.

وليست أفيونًا للشعوب؛ تُخدِّرهم وتُرَكِّعُهم على بساط القَيْصَر، وتُسجدهم تحت أقدامه، تنسخ لهم بِطَاعتِه طاعةَ الله ورسوله، وتهدم لهم أركان الإيمان بقرارات حكوماته، كما الرافضة الخمينيون يفعلون؛ وتقوم في المسلمين مقام القساوسة في النصارى، ومقام الكنائس في أوروبا.

وليست اسمًا ولا شارة، بل الاسم الحقيق الإسلام، وأهله المسلمون: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}[الحج:78]، وإذا تَدَيَّنَ الناس بالتسمِّي حتى كان العتبة الفارقة؛ فإن {الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}[آل عمران:19]، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة:3]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[آل عمران:85]، فيكفينا أن نتدَيَّن بالإسلام: اسما ورسما ووسما. وقد وروى ابن عبد البر قال: "جاء رجل إلى مالك فقال: يا أبا عبد الله، أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بيني وبين الله تعالى. قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سل. قال: مَن أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرفون به، لا جهمي، ولا قدري، ولا رافضي"[ابن عبد البر، الاانتقاء، 35]. فكيف إذا جمع المتسمِّي بالسلفي بين ضلالات الفرق؛ فهل يُغْنِي عنه التِّسَمِّي شيئًا؟! وقدْ أوْجَب بَعْضُ مشاهيرها التَّسَمِّي باسمها، ولو كان الواقعُ خِلوًا مِن مضمونها!

قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الصف:7]. ومن الظلم والافتراء على الله أن نخالف شرائع الإسلام ومناهج السلف باسم الإسلام ومنهج السلف.

ومن الظلم والافتراء على الله أن تُخالَفَ أخلاق القرآن والسلف، باسم القرآن ومنهج السلف؛ ويُنسب إليه، كما نسبوا أكل لحوم العلماء والدعاة  والغيبة والنميمة إلى مبدأ الجرح والتعديل الذي هو ميزة هذه الأمة ومنحتها في حماية جناب السنة.

ومن الظلم والافتراء على الله أن يُحارب صحيح الفهم وصالح العمل باسم الإسلام ومنهج السلف، كما حاربوا مفهوم أن "لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة" بحجة أن توسيع مفهوم كلمة التوحيد، يُوَسِّع دائرة التكفير!!

ومن الظلم والافتراء على الله أن يُدْعَى إلى فرقة المسلمين وتحزيبهم أحزابًا خلافًا للقرآن والسنة ومنهج السلف باسم السنة والسلفية.. كما حاربوا تعاون المسلمين وتكاتفهم باسم محاربة التعصب والحزبية، وهم المتحزبون على الباطل، والمتعصبون للأهواء!

لكن هيهات أن يبقى الحال على ما إليه آل، فدوام الحال من المحال، وإن السلفية تنفي الخبث عن نفسها كما تنفي النارُ خبث المعادن. فالمدينة بسلفيتها الأولى نفت الخبث من الأدعياء، وممن تلبَّسوا بها وتشبَّهوا بأهلها، وممن دخلوها أول النهار وخرجوا منها آخره، لفتنة أهلها، كما حدث مِن طائفة ظاهرهم كظاهر أهل الإسلام، وإلا لم تحصل بهم الفتنة، كما قالوا: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[آل عمران:72]... وكذلك سلفية اليوم ظهرت حقائقها الإسلامية الحقة الناصعة، وظهر رجالها الصادقون، وحمل سيلُ الفتن والأيام غُثاءها ونفي خبثها، فركمه جميعًا ورماه في نفايات التاريخ، وقوارع الطريق. إلى غير رجعة إن شاء الله، إلا مَن تاب.

إن خَبَثًا كثيرًا الْتَصَقَ بالسلفية واعتلاها حتى ما تَبِينَ، واعتراها واعتورها حتى ما تَصِحَّ، في صورة أشخاص يَدْعون إليها دعوة مغشوشة وينطقون باسمها، أشخاص بارزين تَشَيَّخوا باسمها ويتَبَنَّوْنَها ويحتكرونها دون الناس، وفي صورة تنظيرات قاصرة وفتاوى شاذة وتقعيدات باطلة وتنزيلات حجرية خارج محَالِّها.. كل ذلك أنواعٌ من الخبَث نفته السلفية عن نفسها.. ومَيَّز الله بين طَيِّب ذلك وخبيثِه.

صدق الله العظيم إذ يقول: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[آل عمران:179]. اللهم اجعلنا من الطيب لا من الخبيث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)- كان ظهور هذه الجماعة في "طيبة؛ المدينة المنورة"، تزامنا مع حرب الخليج في حدود 1411هـ. ومؤسسها الأبرز محمد أمان الجامي ثم ربيع المدخلي، ثم كثرت شيوخها ثم كثرت شروخها، حتى صدق فيهم قول الشاعر:

اصبر على الحقود * * *  فإن صبرك قاتلُه

كالنار تأكل بعضها * * * إن لم تجد ما تأكلُه

4 شوال 1436 (20‏/7‏/2015)