الدور التركي وأثره في تحجيم النفوذ الإيراني
لكن تبقى مسألة الخلاف السياسي بين الدول العربية، عائقاً ماثلاً في طريق تعزيز المحور السني، وقد ظهر ذلك جلياً، أثناء محاولات المصالحة التي بذلتها المملكة العربية السعودية، مع الجانبين التركي والمصري، خاصة وأن إيران كانت أكبر المستفيدين من الخلافات الداخلية في العالم العربي.
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
ينظر البعض إلى التدخل التركي في المنطقة العربية، على أنه نوعاً من الترف السياسي أو في إطار بحث "أردوغان" عن مناطق نفوذ في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، تتناسب وحجم إنجازاته المختلفة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويغفل هؤلاء حجم المهددات التي باتت تضرب العمق التركي من الداخل والخارج، فإذا كانت أنقره تعتبر منطقة الشرق الأوسط أحد أهم مناطق نفوذها، فإن الأزمات الداخلية التي تعيشها جاءت عقاباً لها على هذا الدور.
قبل الحديث عن المساعي التركية في تحجيم النفوذ الإيراني المتنامي في الشرق الأوسط على حساب العالم السني، كان ينبغي الإشارة إلى مخاطر التوسع الإيراني الشيعي على تركيا أولاً، ثم العالم الإسلامي بشكل عام، وذلك في سبيل توضيح حجم الأخطار التي تواجه تركيا وتدفعها للانخراط في محور سني، لأن المخاطر التي تواجه العالم السني هي نفس المخاطر التي تواجه تركيا.
على الصعيد الداخلي، جاءت الأزمات المتلاحقة التي عصفت بالحكومة التركية على مدار العامين الماضيين، في إطار إسقاط النظام الذي بات يمثل أحد أهم أضلاع العالم السني، وفي نفس الوقت شل حركة تركيا من الداخل لإبعادها عن التحركات الإيرانية في المنطقة، حينها تكون منطقة الشرق الأوسط حكراً على الدور الإيراني، في سوريا والعراق واليمن، وقد يمتد هذا التوسع الشيعي إلى دول الخليج نفسها، خاصة وأن إيران باتت تحرك الشيعة في كل المناطق السنية.
وعلى الصعيد الخارجي، جاءت الأحداث المترتبة على الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 لتخدم إيران بالدرجة الأولى، لأن طموحها الإقليمي كان يراكم نفوذها في الشرق الأوسط، وقد آخذ هذا الطموح الإيراني طريقه نحو السيطرة على النظام العراقي الجديد، وأصبحت إيران بين ليلة وضحاها صاحبة الكلمة العليا هناك، كما أن تمدد الأكراد في شمال العراق لعب دور العازل لنفاذ تركيا إلى العراق وعزلها عن التفاعل مع التطورات الجارية هناك، ما أفسح المجال لطهران لأن تقرر مصير هذا البلد، وقد جاءت التطورات المصاحبة للأحداث في سوريا والعراق والمواجهة المباشرة والعلنية بين الجماعات الشيعية المدعومة إيرانيا وقوى المعارضة السنية لتعزز من حجم المخاطر التي باتت تشكل تهديداً للأمن القومي التركي، وتضع حداً لتواصل تركيا مع العالم السني.
وفي حين باتت إيران تقود تحالفا إقليميا يشمل بغداد ودمشق وحزب الله في لبنان، ظلت تركيا لسنوات عدة تحتفظ بعلاقات جيدة مع العديد من الدول العربية لاسيما السعودية وقطر ومصر( قبل نظام السيسي)، لكن هذه العلاقات لم تكن ترتقي إلى مستوى التحالف الإقليمي، إلى أن بدأت المواجهة في سوريا والعراق تأخذ منحى أكثر خطورة، ثم المواجهة الجديدة في اليمن، حينها كان الأمر ملحاً لتشكيل تحالف سني يحجم هذا التوسع الإيراني.
هذا التوسع الإيراني المتواصل على حساب العالم السني، كان كفيلاً لأن يدفع تركيا نحو تشكيل محور سني مضاد يمكنه أن يواجه التحدي الشيعي ويحجم دوره، عبر توقيع اتفاقيات مختلفة "عسكرية واقتصادية وثقافية" مع الدول العربية السنية، والدخول في تحالفات إستراتيجية مع العالم السني استعدادا لأي مواجهة محتملة، وهنا لا أتصور أن يسير التحرك التركي في المنطقة في سياق علاقاتها مع قوى الإسلام السياسي، بل أن المسألة لم تعد مرتبطة بهذا الأمر، لأن الدوافع التركية نحو المنطقة لها بعدين أساسيين، بعد مذهبي وآخر سياسي، وإن كانت التحالفات دائماً ترتبط بالعامل السياسي القائم على المصالح، لكن البعد المذهبي السني يظل حاضراً بقوة في التحالف التركي مع الدول العربية.
وبالرغم من وصول الأمر إلى حد المواجهة المسلحة في سوريا والعراق واليمن، إلا أن العلاقة التركية مع إيران لها طابع مختلف، فالأخيرة بالنسبة لتركيا، هي أشبه "بـ العدو الذي لا يمكن معاداته" فمع وجود خلافات كبيرة بينهما، إلا أن هناك الكثير من الاعتبارات التي لا تسمح بتحول تلك الخلافات إلى خصومة إقليمية أو صراع إقليمي محتدم بين الطرفين، لأن لغة الاقتصاد تقول، إن حجم التبادل التجاري السنوي بين البلدين قد بلغ 21 مليار دولار عام 2013، وخلال زيارته لطهران في يناير 2014، كان الرئيس التركي قد أكد حينها على أن حجم التبادل التجاري سيصل إلى 30 مليار دولار خلال 2015 بعد توقيع اتفاقيات تجارية جديدة، أضف إلى ذلك محاولات تركيا لأن تلعب دور الوسيط بين إيران والغرب في البرنامج النووي الإيراني.
لذلك تلجاً تركيا إلى المواجهة بطرق أخرى، من شأنها أن تجنب مصالحها أي خسائر محتملة مع إيران، فاتفاقها الإستراتيجي مع قطر، الذي دخل حيز التنفيذ في 8/6 الماضي، يسمح لقواتها بالانتشار على الأراضي القطرية وتبادل المعلومات الإستخبارتية والتدريب، من شأنه أن يساعد تركيا على مواجهة التوسع الإيراني في الخليج، لأن وجود القوات العسكرية التركية على الأراضي القطرية سيشكل نقلة نوعية للوجود التركي في هذه المنطقة، يمكنها إعاقة أي محاولات إيرانية محتملة. الجدير بالذكر إن هذا الاتفاق هو الأول من نوعه، لأن الاتفاقيات التركية السابقة مع دول المنطقة لم تصل إلى حد انتشار قوات عسكرية تركية على أراضي عربية، كما أن إتاحة الموانئ والمطارات والقواعد العسكرية القطرية لتلك القوات التركية، يمكنه أن يملئ الفراغ الذي خلفه الانسحاب الأمريكي من العراق، وإيجاد الحلول العلمية لأمن منطقة الخليج بعيداً عن التصعيد الإيراني ورد الفعل الدولي المضاد.
في هذا السياق يأتي التنسيق التركي السعودي على مستقبل سوريا والعراق، في إطار بدء الدول العربية لاسيما دول الخليج في الاعتماد على نفسها، بعيداً عن الاعتماد على أي تحالف دولي، خاصة إن القضية السورية قد طال انتظار حلها، لأن تعامل التحالف الدولي مع الأمر رفع من حالة الإحباط لدى العالم السني، خصوصاً وإن أي نجاح تحققه قوى التحالف تكون المليشيات الشيعية هي المستفيد الأول على الأرض.
لذلك ظل التحرك التركي متوقعاً في هذه المناطق، حيث أشارت صحيفة "ملليت" التركية في 4 مارس الماضي، إلى أن الحكومة كانت قد أعطت الضوء الأخضر لقواتها العسكرية لاستخدام قاعدة "إنجرليك" العسكرية والبدء في عمليات ضد التنظيمات المتطرفة في مناطق شمال العراق، وقد جاءت الأخبار التي تحدثت عنها صحيفة "ستار" التركية في نفس الوقت عن اتصالات تركية مع الحكومة العراقية فيما يخص قضية الموصل لتؤكد على بدء التحرك التركي الذي يأتي على الأغلب بالتنسيق مع الجانبين السعودي والقطري، بهدف تحرير هذه المناطق من التنظيمات المتطرفة ومساعدة القوى السنية في السيطرة على تلك المناطق، بما يقوض أي مساعي إيرانية للسيطرة عليها.
من ناحية أخرى، يأتي دعم تركيا لعاصفة الحزم ليعزز من دورها في تقويض وتحجيم النفوذ الإيراني الداعم للحوثيين في اليمن، فكانت تركيا قد أعلنت موقفها بشكل صريح تجاه قضية الحوثيين في الساعات الأولى لبدء العملية العسكرية، كما استعدت لاحقاً للتعاون مع السعودية في تقديم دعم لوجيستي ومعلومات استخباراتية في هذا الشأن، كما جاءت تصريحات وزير الخارجية التركي "مولود تشاويش أوغلو" في 3/4 الماضي حول هذا الأمر واضحة، حين أكد على دعم بلاده للرئيس المنتخب "عبد ربه منصور هادي"، ودعم الجهود السعودية في هذا الشأن.
لكن تبقى مسألة الخلاف السياسي بين الدول العربية، عائقاً ماثلاً في طريق تعزيز المحور السني، وقد ظهر ذلك جلياً، أثناء محاولات المصالحة التي بذلتها المملكة العربية السعودية، مع الجانبين التركي والمصري، خاصة وأن إيران كانت أكبر المستفيدين من الخلافات الداخلية في العالم العربي.
مجلة البيان