(30) اليقين في البعث واليوم الآخر (2)
مدحت القصراوي
كيف يكون الوضع الكلي للحياة عبثًا بلا حكمة؟! {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
ـ الدليل الثالث: الاستدلال بخلق ما هو أَوْلى وأعظم خلقًا من الإنسان -الذي يستعظمون بعثه- وهو خلق السماوات والأرض: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27]، وبالتالي ينص القرآن وينبه على أن الله خلق ما هو أعظم من الإنسان ولم يعي ولم يتعب ولم يكترث بخلقهما، أفلا يقدر على خلق ما هو أقل منهما؟!
ولذلك بعدما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، قال تعالى بعدها: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ . إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [غافر:58-59]، فواضح أنها سيقت للاستدلال على الساعة.
وبعدما قـال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ}؟ فصّل سبحانـه خلقه للسماوات والأرض فقال: {..بَنَاهَا . رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا . وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا . وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا . أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا . وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا . مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} ثم قال تعالى بعدها: {فإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى . يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى} [النازعات:27-35]، وقال تعالى: {أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف:33]، وقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81].
ـ الدليل الرابع: الاستدلال بالحكمة.
وذلك أن القول بعدم البعث هو قول بأن الله تعالى خلق الحياة عبثًا وسدىً وهباءً، وهذا لا يليق برب العالمين.. هذه واحدة.
والثانية: أن الحكمة ملحوظة في كل جزء من الكون وفي كل ثناياه -فالعين في محلها بما يحفظها من أهداب ومحاجر وحاجبين، والرِجْل لوظيفتها، واليد والأصابع، والخلايا وأنواعها، والتوازن في الخلق في كل عالم من الحيوان والطير، والديدان والحشرات والوحوش، وبين العوالم وبعضها وبين السماء والأرض، وفي هذا الجانب كتبت أسفار تراجع خاصة في علم الأحياء والكيمياء وغيرها..
فإن كانت الحكمة هكذا مبثوثة ومنطوية في كل ذرة، وفي كل منعطف في هذه الحياة، وفي الكون العريض وآفاقه، فكيف يكون الوضع الكلي للحياة عبثًا بلا حكمة؟! {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53].
وكيف يكون الغرض العام من الحياة والكون والخلق كله عبثًا بلا هدف؟
وفي عالم البشر كم من ظالم مات ظالمًا لم يقتص منه، وكم من مظلوم مات بدمعه كمدًا لم ينتصف له فإن كانا يستويان فيلزم من هذا أن الظالم كالمظلوم، ومن كف عن الظلم سيستوي مع من أغرق فيه، ومن عف عن المحارم كمن انتهكها فيلزم من هذا أن الحياة عبث وسدى وبلا حكمة، بل يلزم منها الإلحاد في وجود الله تعالى وإنكاره..
هذا ما عده القرآن سبة لله تعالى، ونزه تعالى نفسه وقدسها عن هذا العبث وتعالى عن هذا الظن، وانظر إلى هذه الآيات: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}، ثم نزه تعالى نفسه عن هذا فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115- 116]، فتعالى ربنا عن هذا العبث وتنزه عنه، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].
فهو ظن سيىء برب العالمين، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}، ثم أعقبت بتقرير الساعة: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85]، ومعنى {بِالْحَقِّ}: "إلا ملتبسًا بالحق مراعيًا فيه مقتضى الحكمة البالغة" (تفسير البيضاوي، جـ 1، ص 185)، "إلا خلقًا ملتبسًا بالحق وهو ما تقتضيه الحكمة والمَعْدلة وفيه دلالة على وجود الصانع الحكيم والبعث للمجازاة على ما قررناه مرارًا" (المصدر السابق، جـ 1، ص 176).
{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3]، والسورة كلها في إنكار المشركين للبعث، والرد عليهم وتقريره، {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ . يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ . أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم:6-8]، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الّـَذِينَ أَسَـاؤُوا بِمَا عَمِلُـوا وَيَجْزِيَ الّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، فهذا نص على أن خلقه لهما لهذا القصد، وهكذا.
يتبع إن شاء الله تعالى..