نداءات غزة .. من الحصار إلى الانتصار

علي بن عمر بادحدح

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لقد تبنى النظام العربي السلام خياراً استراتيجياً، وقبل ذلك كُبلَّت الدول المحيطة بفلسطين بالاتفاقيات السلمية، وجاءت اتفاقية أوسلو لتكمل الحلقات وتكون بمثابة حبل المشنقة في عنق القضية الفلسطينية؛ لأنها ربطت فلسطين ذاتها من خلال منظمة التحرير الفلسطينية - الممثل الشرعي الوحيد - بأسوأ مما تضمنته اتفاقيات [كامب ديفيد] مع مصر، و[وادي عربة] مع الأردن، وفي هذا السياق جاءت خارطة الطريق واللجنة الرباعية واتفاقيات المعابر وغير ذلك.مما كرس الاعتراف بشرعية العدو والارتهان له، وربط القرارات بالاتفاقيات.

وهكذا تَواصلَ الإجرام وتَضاعفَ العُدوان على إخواننا في فلسطين، وظهر ذلك جلياً بعد الانتخابات التشريعية التي فازت فيها (حماس)، حيث بدأ الحصار العالمي الذي دعت إليه وتبنت تنفيذه أمريكا وتابعها الاتحاد الأوروبي، ووافق ضمناً أو خضع عجزاً العالم العربي، وانتظم الحصار في دائرتين:

الأولى (خارجية) وعنوانها الأبرز:
الحصار الاقتصادي بتجميد المساعدات ومنع التحويلات، والحصار السياسي بعدم الاعتراف بالحكومة والتعامل معها.

والثانية (داخلية) وهي:
شاملة تضم الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، وفي كل ذلك يمكن وصف ردود الفعل الرسمي والشعبي بأنه قاصر بل وعاجز.

واليوم اشتد الحصار وأحكم على مدى سبعة أشهر، خلالها مات المرضى وجاع الصغار وتقلصت الأعمال وتضاعفت البطالة وتعطلت المصانع ومنعت الأدوية وشحت الأغذية، ووصل الأمر ذروته بمنع الوقود وانقطاع الكهرباء، وهنا كثرت النداءات بضرورة التدخل الرسمي والشعبي، وتوجهت الأنظار إلى الدول الكبيرة كالسعودية ومصر، وكذلك إلى القيادات الشعبية المؤثرة من العلماء والدعاة وقادة الرأي، وتركزت الجهود - من غير وعي - على ضخ الوقود وإعادة الكهرباء، وكأنها المشكلة الأساسية والوحيدة، وبعض الجهود ركزت على المطالبة بفك الحصار، وفي ظل ذلك غاب التركيز على الاحتلال وممارساته الإجرامية، ولم يعد يُذكر الأساس الشرعي بل والقانوني الدولي بأن المطلب هو زوال الاحتلال وانسحابه بكل صوره، لا أن يكون هو المتحكم في المعابر، وبيده أمر الغذاء والدواء، والتجارة والصناعة، بل إنه يتحكم حتى في معبر رفح الذي يربط مباشرة بين مصر وغزة و لا مكان فيه للصهاينة في أرضنا المحتلة.

إنني أنبه هنا إلى أمرين مهمين:

الأمر الأول: التراجع الخطير
والمقصود أن حالنا قادة وشعوباً يتراجع تجاه قضية فلسطين، والتراجع السياسي هو الأظهر فلا الحال يشبه عام 48م يوم كان النداء هو الجهاد ومقاتلة اليهود، ولا هو مثل عام 67م وأن الصهاينة هم العدو المحتل، وانتقل الأمر عام 82م إلى مبادرة السلام من المعتدى عليهم وليس من المعتدي، وجاءت كامب ديفيد 87م لتعلن الاعتراف بالعدو ووجوده وتوقيع الاتفاقيات المقيدة، وسار الركب كله إلى مؤتمر السلام في مدريد 91م، وبعد "غزة أريحا أولا" جاءت اتفاقية أوسلو 93م، وبعد ذلك ما لا يحصى من الاتفاقيات والتفاهمات من [طابا] إلى [واي ريفير]، ومن [ميتشل] إلى [تنت]، إلى المسيرة الاحتفالية في [أنابولس]، وفي كل ذلك كان العدو مستمراً في القتل والإجرام، والهجرة والاستيطان، والتقدم العسكري والنووي، والتقدم السياسي حتى استصدر قراراً من الأمم المتحدة بتجريم ومحاكمة من ينكر الهولوكوست، ومن خلال (اليونسكو) قد تلزم الدول بتدريس الهولوكست ومعاناة اليهود في مناهج التعليم، وفي المقابل صارت الدول العربية منقسمة ما بين معتدلة ومتطرفة، وزاد الشرخ والتصدع في لبنان المعطل، والعراق المثخن بالجراح وهكذا.

وأخطر من ذلك التراجع التعليمي والثقافي فسياسة تجفيف المنابع تبنتها دول قطعت بين الأجيال ومنابع عقيدتها وعزتها وتاريخها، وتطوير المناهج عنوان آخر في دول أخرى تبنى أن يحذف من المناهج ما يدعو إلى الكراهية - حسب الاتفاقيات - بما في ذلك حذف آيات قرآنية، ومُنعت المنابر من تجاوز الحدود التي تسيء إلى دول تربطنا بها اتفاقيات دولية، وباسم الاتفاقيات شارك الصهاينة في معارض الكتب والمهرجانات الثقافية.

والتراجع الأخطر في المجال الفكري والعقدي الذي رفعت عقيرته بأصوات عصرانية وعلمانية حيث جاء الهجوم والتشكيك في أصول وتشريعات إسلامية، وتدعو إلى انسلاخ المرأة من إسلامها، وانفصام السياسة عن الرابطة الإسلامية والعربية، فالمقاومة المشروعة جهل بل وانتحار سياسي، والدعوة والصحوة الإسلامية ظلامية تعيق التقدم وعلة تستوجب الاستئصال، وباسم الواقعية لا مجال إلا أن نحتشد تحت المظلة الأمريكية، وتوج ذلك بالإلغاء والتحريف والتمييع لمصطلحات مهمة كالجهاد والولاء والبراء، وكان الإعلام يروج وينشر حتى بلغ الأمر مرحلة تكاد تؤثر في بعض المسلمين بحيث يكون المعروف منكراً والمنكر معروفاً.

ومن هنا فإن قمة التصعيد الصهيوني بالقصف الجوي والتوغل البري ومنع الوقود وانقطاع الكهرباء لم يقابل حتى الآن سوى بالاستجداء من مجلس الأمن، والاتصال بالرباعية، ويأتي الجواب دائماً متضمناً المساواة بين الجلاد والضحية، وبين المغتصب المحتل وصاحب الحق والأرض، فلابد من إدانة المقاومة والمطالبة بتجريدها من السلاح، مع الطلب من الصهاينة بتخفيف الحصار ومراعاة الحالات الإنسانية وعدم الإفراط في استخدام القوة، وعلى الضحية إثبات التنفيذ أولاً قبل أن يقوم المعتدي بأدنى تحرك.

الأمر الثاني: حقيقة الحصار
بكل وضوح وجلاء يمكنني القول بأننا نحن المحاصرون لا أهل غزة وإليكم الأدلة:
• غزة تستطيع أن تذكر جرائم الصهاينة وتصرح بها، والقادة العرب لا يستطيعون وإذا تكلموا وزنوا الكلمات وراجعوا العبارات وإذا صدرت تصريحات قوية تبعتها التفسيرات المتراجعة.

• غزة الوحيدة في العالم التي ترد على إجرام الصهاينة وتثخن فيهم جراحاً، ودول بجيوشها وعدتها وعتادها تُقصَف ويأتي ردها بأنها تحتفظ لنفسها بحق الرد.

• غزة تفضح الخونة وتعاقب من تثبت عمالته للعدو، ودول يثبت فيها تجسس عملاء لإسرائيل المجرمة والنتيجة إطلاق سراحهم مرة بعد مرة.

• غزة لا تخضع لإملاءات أمريكا، وأكثر دول العالم عموما والدول الإسلامية خصوصاً تتبع المطلوب أمريكياً بنسبة كلية أو دون ذلك.

• غزة لا تخضع لإملاءات المساعدات الدولية، وكثير من الدول مرتهنة بهذه المساعدات ومتطلباتها ومساوماتها.

• غزة صامدة ثابتة لم تتراجع عن حقوقها الثابتة، وتراجع أكثر الدول لا يحتاج إلى دليل.

• غزة قائدها يخطب جمعتها ويؤم جماعتها ويعود مريضها ويعزي أهالي شهدائها، وجل - إن لم يكن كل - قادة الدول لا تراهم شعوبهم في المساجد إلا نادرا، بل لا تكاد تراهم إلا من خلال الشاشات الفضية التلفزيونية.

من هنا رأيت أن أترك حديثي وندائي لغزة الحرة الصامدة لأنها جديرة بأن توجه نداءاتها للمتراجعين والمحاصرين.

نـداءات غـزّة
نداء الحكام وقادة المنظمات العربية والإسلامية:
• تحرروا من عجزكم وحرروا قراركم واربطوه بمصالح شعوبكم وكرامة أمتكم.

• الصهاينة المغتصبون نقضوا العهود وخرقوا الاتفاقيات مرات ومرات، وآن الأوان أن تعلنوا بطلان الاتفاقيات التي لم يلتزموا بها؛ سيما اتفاقيات المعابر واتفاقيات مواجهة المقاومة المشروعة لشعب فلسطين.

• أعلنوا ونفذوا الدعم المالي لأهل فلسطين وتحرروا من الحصار الجائر والخوف القاتل.

• افسحوا لشعوبكم بمنظماتهم المدنية ومؤسساتهم الخيرية وهيئاتهم السياسية والمهنية ليتواصلوا مع إخوانهم في فلسطين ولا تضعوا العوائق.

• قوموا بواجبكم بالدفاع عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية وتسلموا زمام المبادرة فأنتم أهلنا وأنتم أحق بنا، ولا تتركوا قضيتنا للرباعية ولا غيرها فلماذا تكون أمريكا وأوروبا هي صاحبة الصولة والجولة في قضيتنا، وأين الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي ولماذا تكون تابعة ولا تكون قائدة؟

• بادروا بصدق وإخلاص وبعدل وإنصاف لتوحيد الصف الفلسطيني وجمع فصائله على كلمة سواء تحفظ الحقوق المشروعة وتؤسس لوحدة وطنية توفر أسباب القدرة على مواجهة العدوان واستخلاص الحقوق.

• أخيراً اكسروا الحصار بكل أشكاله فهذا أبسط الواجبات وأولها وليس آخرها.

نداء العلماء والدعاة:
• أنتم علماؤنا وتاج رؤؤسنا، وأول مطالباتنا أن تبذلوا أقصى جهودكم في توصيل النصح الخالص والقول الصادق للحكام بصراحة ووضوح لما تقتضيه المرحلة الحاسمة والظروف العصيبة.

• أعلنوا في الأمة بكل وضوح وجرأة حقيقة القضية الفلسطينية، وصلتها بهويتنا وعقيدتنا الإسلامية، وارتباطها بمسرى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى، وأنه قضية المسلمين التي ينبغي أن يعتنوا بها جميعاً.

• وضّحوا للأمة الحكم الشرعي والموقف المصلحي فيما يجري من مفاوضات واتفاقيات السلام وآثاره على الأمة فكرياً واجتماعياً واقتصادياً.

• أحيوا في الأمة المعاني الإيمانية بالتوكل على الله والثقة به والالتجاء إليه والتضرع والدعاء له، واليقين بأن العاقبة للمتقين، وأن الظلم والعدوان لا يكتسب شرعية من فرض الأمر الواقع، ولا من القوة التي يمتلكها، ولابد من تعريفهم بأن المطلوب هو قوة الشرعية وأن المرفوض هو شرعية القوة.

نداء لعموم الأمة:
إخواننا المسلمين نحو مليار ونصف والخير في أمة محمد كبير وباستطاعتكم فعل الكثير حتى لو قصر القادة والعلماء، فأنتم قادرون على أن تقدموا لقضيتكم، وأن تحركوا قادتكم وعلماءكم وإليكم غيض من فيض مما يمكن أن تقدموه:
• الاجتهاد في طاعة الله والتقرب إليه بقيام الليل والاستعانة بسهام الليل والقنوت، والدعاء الخالص والتضرع الدائم لله عز وجل بأن يثبتنا وينصرنا، وأن يدحر عدونا وعدوكم من الصهاينة المعتدين.

• بذل المال والتبرع لنصرة وتثبيت إخوانكم في فلسطين؛ لمواساة أسر الشهداء والجرحى وإعانة المحتاجين والجوعى ومساعدة المرضى وكفالة الأيتام وإغاثة الملهوفين، وابذلوا في ذلك أقصى ما تستطيعون فإن حق فلسطين والإسلام عليكم عظيم حتى لو بذلتم أغلى ما تملكون.

• تخصيص إنفاق دائم "يومي أو شهري" منك ومن أفراد أسرتك واجعل صندوقاً للأسرة وحصالات للأطفال يخصص لدعم القضية الفلسطينية، ولا تكتفي بالبذل الذي يأتي مع الأحداث فقط؛ لأن فلسطين وعلى مدى أكثر من ستين عاماً معاناتها مستمرة وشهداؤها يودعون الحياة في كل يوم.

• عرفوا أبناءكم وأسركم ومجتمعكم بقضية فلسطين، ومراحل عدوان الصهاينة المجرمين بالوسائل المختلفة، واحرصوا على ربطهم بهذه القضية من منطلقاتها الإسلامية الصحيحة، وربّوهم على تحقيق معاني الأخوة والنصرة لدين الله وعباده.

• ارتبطوا بأحداث وأخبار فلسطين أولاً بأول من خلال متابعة:

- (موقع اللجنة الشعبية لمواجهة الحصار: www.freegaza.ps).

- (المركز الفلسطيني للإعلام: www.palestine-info.info).

- (موقع إئتلاف الخير: www.etelaf.org).

• اجتمعوا فيما بينكم في البيوت ومقرات العمل وتدارسوا السبل والأفكار المختلفة التي يمكن أن تخدموا بها قضيتكم الفلسطينية إعلامياً واقتصادياً واجتماعياً ومحلياً ودولياً واجتهدوا على تبني المشروعات المشتركة في هذا الصدد.

• نظموا حملات مبرمجة لمقاطعة بضائع الشركات الأمريكية وغير الأمريكية الداعمة للكيان الصهيوني؛ لتحقيق الأثر الإيماني والتربوي حتى ولو ظننتم أن الأثر الاقتصادي محدود.

• خاطبوا - بكل الوسائل المتاحة - قادتكم وعلماءكم وخطباء مساجدكم وكتاب صحفكم ومقدمي برامجكم وطالبوهم بأن يعطوا قضية فلسطين حقها، وأن يقوموا بواجبهم تجاهها، وأن يقوموا بكل عملٍ مطلوب لفك وإنهاء الحصار مباشرةً بدون أدنى تأجيل، واعلموا أن زخم أصواتكم وكثرة مطالباتكم ستكون ذات أثرٍ كبير.

• خاطبوا جميعاً - بكل الوسائل المتاحة - المنظمات العربية والإسلامية السياسية والخيرية والتعليمية وطالبوها بأن تقوم بدورها وتؤدي رسالتها تجاه قضية فلسطين وتعمل على فك الحصار وأن لا تدخر في ذلك جهداً.

• خاطبوا - بكل الوسائل المتاحة - جميع المنظمات الدولية السياسية، والجمعيات المدنية العالمية، ومنظمات حقوق الإنسان لتوصلوا لهم استنكاركم وتؤكدوا على المخالفات القانونية والإنسانية التي يمارسها العدو الصهيوني باستمرار على أهل فلسطين.

• اعملوا على خدمة التعريف بالقضية ومآسي وجرائم الاحتلال وواجب المسلمين تجاه فلسطين والسبل والوسائل لذلك من خلال التواصل الإلكتروني في المواقع والمنتديات المختلفة.

هذه نداءات غزة لا تدعو إلى فك الحصار، بل إلى وضع الأقدام على طريق الانتصار وعدم التراجع مع مرور الزمن وفرض الواقع الجائر، إنها نداءاتٌ لنكسر نحن الحصار عن أنفسنا، وننتصر على جبننا وخوفنا وترددنا ونرتفع عن الركون إلى الأرض والانشغال بالدنيا والخوف من جبابرتها إلى سماء عزة الإيمان ويقين الانتصار.



*بتصرف يسير جدا




المصدر: موقع اسلاميات