(33) العلم قبل الطريق (2)

مدحت القصراوي

لا يجوز لمن يريد الوصول إلى ربه تعالى أن يفصل بين الدين والدولة، فيلتزم شريعة الله في مجال وشريعة غيره في مجال آخر، فهذه شرك أعظن ورد لأمر الله تعالى فيما قبل فيه شريعة غيره.

  • التصنيفات: محاسن الأخلاق -

احذر رد الشرائع

من أراد أن يبذل جهدًا لربه تعالى مهاجرًا من هذه الدار وملتفتًا لدار أخرى، مستيقنًا بالغيب، فلا بد أن يتجنب فتن اليوم.

فمن أراد الوصول لربه تعالى فليبذل جهده وهو يفرد الله بالطاعة فلا يشرك معه في طاعته أحدًا، فعليه أن يقبل شرع الله ويرفض أي شرع سواه.

إن مجموعة الأحكام والقوانين تسمى شرعية؛ فإن كانت منزلة من عند الله وناسخة فهي الشريعة الربانية الواجبة الالتزام كقانون خاص وعام فردي وجماعي، في العبادات وفي العادات والمعاملات كلاهما.

وإن كانت صادرة من غير الله تعالى فهي الشريعة المبدلة، تحلل وتحرم بخلاف ما شرع الله تعالى، وتستند الى مشرع سواه يخضع له من دون الله مَن يقبلها.

لا يجوز لمن يريد الوصول إلى ربه تعالى أن يفصل بين الدين والدولة، فيلتزم شريعة الله في مجال وشريعة غيره في مجال آخر، فهذه شرك أعظن ورد لأمر الله تعالى فيما قبل فيه شريعة غيره.

المسلم يقبل شرع الله تعالى في تعبده ومعاملته وشأنه الخاص والشأن العام، بخلاف من يتعبد لله في جانب يبذل فيه ثم هو يكره شرع نفس الإله ويتهم ربه تعالى بالجهل والقصور وعدم العلم بتطورات الزمان والحياة! أو يتهمه تعالى في عدله أو حكمته.

فالعابد يعلم أن شرع الله ملزِم له فرديًا وجماعيًا، وأن واجبه ليكون مسلما هو:

1- (التصديق) بما أنزل الله.

2-(التزامه) كقانون، لا يقبل غيره، وأنه لا يجوز التشريع من دون الله ولا التقنين رجوعًا لشريعة أخرى، ومن يفعل ذلك من فرد أوهيئة أومؤسسة فقد اعتدى على حق الله تعالى، والمسلم يبرأ من ذلك وممن فعله ويسقط شرعيته.

المتعبد يقبل شريعة الله قانونًا ملزمًا كما هي قيم أخلاقية ومأخذ تعبدي ومشرب حضاري وهوية جامعة.
من تعبد -بزعمه- فاصلًا بين الدين والحياة فهو يرفض شريعة من يتعبد اليه! ويخدعه المضِلون أن رفضه لما أنزل الله في المجال العام لن يضره وأن الله يقبل منه، بينما يلقى الله تعالى رافضًا لمنهجه متهمًا إياه بقصور علمه عن تطور الحياة وبالتالي فيجوز التخلي عن شريعته ومنهجه، أو متهمًا رحمته تعالى بزعمه أن حدود الله تعالى تخالف الرحمة! أو في عدله تعالى بأحكام المواريث أو غيرها، أو في سمو شريعته حيث يرون الخير في غير ما شرع، فترى حياة الإباحية أفضل وغير ذلك من مشارب حضارية غربية وشرقية.

المتعبد مطمئن لربه، مؤمن واثق في شرعه علمًا ورحمة وحكمة، والإيمان هو استقرار للتصديق بالقلب واستقرار للتعظيم لدين الله والانقياد اليه والاطمئنان لما أنزل.

إياك أن تقبل قانون شرعه غير الله ويرجع في مشروعيته وإلزامه لسواه، فنفس قبولك لهذا هو رفض لما يقابله من شريعة الله، وما من فعل أو مناط إلا ولله فيه حكم؛ فمهما تقبل غيره فقد رفضت ما يقابله من شريعة ربك.

فإن القانون يُنظر فيه إلى واضعه والملزِم به، فإن رجع القانون الى إقامة حكم الله وشرعه فمقبول أيا كانت تفصيلاته، بل حتى قبل أن تنزل تفصيلاته كما قبلته والتزمته خديجة وأبو بكر وزيد وعلي وبلال من السابقين الأولين قبل نزول تفاصيله.

واليوم تسيطر أوضاع هي خطيرة على دين المسلم وعقيدته، من خلال علمانية تنحي الدين وتشرع بدلا منه وتقول أنه خطر على الحياة ومنجزات الحضارة أو على الوحدة الوطنية واللحمة المجتمعية (وكأننا حصّلنا وحدة أو لُحمة بعيدًا عن هذا الدين).

وهي تحارب الدين إما صراحة بتتبع ينابيعه فتجففها وتشوهها وتستأجرها، أو بقتل أهله وإهانة رموزه، أو مع ادعاء احترامه! لكن تشترط على الإسلام لتحترمه أن يترك لها الحياة القانونية والثقافة والإعلام والمؤسسات والدولة والأخلاق! وترضى بما تلقيه اليه من فُتات.

لا يقول متعبد أنني لا شأن لي بهذه الأوضاع، إذ أن هذه الأوضاع والشرائع المبدَلة تخاطبه بخطاب هو شريعة مبدلة، بدلًا من خطاب الله تعالى ولا بد لك من موقف، فإن قبلتَهما فهو الشرك، وإن رددت شريعة الله فهو الكبر، وهما ضد الإسلام والتوحيد، أما الشرك فـ {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}، وأما الكبر فـ {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين مقابلة لكبرهم بالإهانة.

ولم يبق لك غير قبول شرع الله كاملا ورفض ما سواه.

إن المسلم يقبل من الله وحده شرع طريقة الصلاة والصيام والحج، كما يقبل منه الحدود والحرمات والأخلاق، ويشكل وفق منهجه مؤسساته وصبغة مجتمعه وقيمه السائدة.

وهذا هو مأخذ العابد الموحد، وعندئذ يصبح جهده مقبولًا، فتُقبل منه التسبيحة والصدقة والسجدة والحج وفعل الخيرات، وإلا كان مخدوعًا مضلَلًا، فكثرة الحج وعمق علامة الصلاة في الجبهة وكثرة الصدقات لا تجيز إباحة الخمر أو الربا أو الزنا أو تبديل الشرائع.

ومن استباح ما حرم الله ورضي بتبديل الشرائع ووافق على إعطاء حق التشريع لسواه يقوم به دون الرجوع والتقيد بما أنزل الله، فلا ينفع حينئذ تعبدات قد هُدم أصل قبولها {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] نحن لا نتكلم عن مظالم قضائية بل عن تشريع قانوني مناقض لما أنزل الله معادٍ له ينفر من حق الله.

فلا تجعل عملك خاسرًا ولا سعيك خائبًا، ولا جعلك الله كذلك، فلا يخدعنك أحد عن شريعتك وقانونك، دينَك دينَك لحمَك دمَك.

يتبع إن شاء الله تعالى.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام