رسائل الجوال

إن الكلمات التي تكتب وتنقل وتذكر، وتسري في الناس وتنشر، إنها عند الله في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، فلا تنس أخي فلا تنس أخي {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا}.

  • التصنيفات: وسائل التكنولوجيا الحديثة -

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره، وعلم مورد كل مخلوق ومصدره، وأثبت في أم الكتاب ما أراده وسطره، فلا مؤخر لما قدمه، ولا مقدم لما أخره، ولا ناصر لمن خذله، ولا خاذل لمن نصره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تفرد بالملك والبقاء، والعزة والكبرياء، فمن نازعه في ذلك أحقره، الحي القيوم فما أقومه بشؤون خلقه وأبصره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أوضح سبيل الهداية ونوَّره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام البررة، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بلغ القمر بدره وسرره، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فيا عباد الله: المخرج إذا ضاقت الأمور، وخيف المحذور، والحصن من الشرور، تقوى الرحيم الغفور، {ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا}.

عباد الله: كم لله من نعمة نتفيأ ظلالها، ونتقلب في أعطافها، وخاصة في هذا الزمن الذي تكاثرت فيه وسائل الراحة، وتنوعت فيه الملذات، وتسارعت فيه التقنيات وبالأخص في مجال الاتصالات إذ شهدت تطوراً عجيباً، وتسابقاً غريباً، وإن هذه التقنيات وتفاصيلها المبهرة هي قطرة من علم الله -عز وجل-الذي تفضل به - سبحانه - على البشر، وصدق الله: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}.

ومن أشهر تقنيات الاتصال في زماننا تقنية الهاتف الجوال، الذي أصبح مشاعاً في أيدي الناس الصغير والكبير، فكان لأناس نعمة وآخرون نقمة، به التواصل وبه التقاطع، وبه نشر الخير، وبه بث الشر، أفرح وأحزن، وأضحك وأبكى، دل على طاعات، وأوقع في سيئات.

لذا كان الحديث عنه مهماً، والتنبيه حوله ملحاً، والحق أن الحديث عنه وعن فوائده وآفاته ومواقفه يطول ويطول، ولكن سيكون حديثنا اليوم عن خدمة من خدمات هذا الجهاز ألا وهي الرسائل في الجوال.

أيها الأحبة: إن أدب الرسائل أدب شمله الإسلام بأصوله الشرعية وقواعده المرعية، التي تحكم تصرفات الناس الفعلية والقولية.

فإليكم أيها الأحبة بعض الآداب حول رسائل الجوال والتنبيهات التي يحسن مراعاتها:

أولاً: مراعاة أدب الرسائل، فلا يُرسل المرسلُ إلا الجميل النافع، مع مراعاة الذوق فيها، وحال المُرسل إليه، فإذا أراد أن يرسل رسالة فلتكن جميلة معبرة أو مُبَشِّرة، أو مُعَزِّية، أو مسلية، أو أن تكون مشتملة على ذكرى، أو حكمة، أو موعظة، أو مثل سائر، أو نحو ذلك.

ثانياً: يلزم التثبت من الأخبار والأحكام قبل الإرسال، وليستحضر المُرْسِل أن رسالته ربما تدوالتها الأيدي، وانتشرت في الآفاق، فله غنمها وعليه غرمها، فلينظر ماذا يحب أن ينقلَ عنه، أو يتسببَ فيه، وإياه ثم إياه من الكذب فيها فعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه – قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: «رأيت الليلة رجلين أتياني، قالا لي: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة» (رواه البخاري).

ولذا كم نشر من خبر مكذوب فيه ترويع للمسلمين وإفزاع لهم، بالإخبار عن أمراض أو معتدين أو غيرهم وناقلها قد تكون نيته حسنة في نقل هذه الرسالة من باب التحذير وهو في الحقيقة ترويع بأمر كذب ودجل.

وكم نشرت من بدعة وروج لها، بل وتوعد من لم ينشرها بالخسارة الكبيرة كوصية أحمد خادم الحجرة النبوية والتي ظهرت قبل أكثر من أربعين سنة وتكلم عن بدعيتها وكذبها الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ بن باز - رحمهما الله - في ذلك الوقت لتمضي السنين ويتناقلها الجهلة برسائل الجوال.

وكم أرسل المرسلون بدعة بحسن نواياهم كقولهم اختم عامك الهجري بصيام أو نحوه، بتحديد عبادات في أوقات لم يأت الشرع بتحديدها، ولم يفعلها أو يأمر بها أحرص الناس على الخير محمد - صلى الله عليه وسلم -.

وكم جاءت الرسائل بأحاديث مكذوبة أو ضعيفة لا تثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسلها المئات والعشرات بغية الفضل والثواب إلا أنهم أخطئوا وأخطئوا أفلا سئلوا عن مصدر الحديث هذا؟ ومن الذي رواه؟ وهل هو صحيح؟ أفلا ألقوه على أهل العلم ليميزوه.

وكم جاءت الرسائل بأدعية لا تجوز شرعا، كقول أحدهم أسأل الله أن يرزقك صبر أيوب، وغنى سليمان، وجمال يوسف... يا سبحان الله ومن سيكون مثل الأنبياء، ألم يدع سليمان: (هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي..)!

ثالثاً: ومما ينبغي الحذر منه: أن نحذر استعمال الهاتف المحمول في الظروف التي يمكن أن يتسبب استعماله فيها ضرراً كبيراً لنا، كاستخدامه حال قيادة السيارة مثلاً، فكم من الحوادثِ حصلت، والأنفسِ أُزهقت بسبب رسالةٍ نصية لم يجدِ البعضُ فرصةً لكتابتها إلا: والمقود بين يديه!

رابعاًً: ومما يُؤسف له إشاعة الفواحش بين المؤمنين عن طريق الرسائل المتنوعة، فكم من مقاطع السوء المحرمة والصور الفاضحة تناقلتها الأجهزة وأصحابها ناسين أو متناسين {إن الله كان الله على كل شيء رقيبا}. أولئك الذين لم يكتفوا بتحميل أنفسهم الضعيفة مالا تحتمل من الأوزار والذنوب فأضافوا لذلك نشر السوء بين الآخرين، فإلى من يرسل عبر جهازه ما يهتك الأستار، ويثير الفتن، ويُشيع الفاحشة فيتناقلها من في قلبه مرض، اعلم أن أوزار الناظرين كلها تعود عليك إلى يوم القيامة إن لم تتب إلى الله تعالى، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا». وقال - تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.

ويالله كم من حي سيغدوا إلى قبره يوماً، وفوق الأرض سوءه الذي نشره وأرسله وبثه، تأتيه حسراته في قبره، ويوم نشره.

خامساً: من الأخطاء والمخالفات في رسائل الجوال أن يُحَرِّج المُرسِلُ المُرْسَل إليه كأن يقول أمانة في عنقك إلى يوم القيامة بأن ترسل الرسالة إلى عشرة أو أكثر أو أقل؛ فهذا مما لا ينبغي ولا يجب شرعا نشره حتى ولو كان آية من القرآن، بل ربما دخل في قبيل البدع والمحدثات.

سادساً: التأكد من صحة الرقم: حتى لا تقع الرسالة بيد من لم يُقْصَد إرسالُها إليه، فيقع الحرج، ويساء الظن بالمرسل إن كانت رسالة لا تناسب.

سابعاً: مراعاة الذوق، وحال المُرسل إليه: فقد تكون الرسالة ملائمة لشخص، ولكنها غير ملائمة لآخر، وقد تكون صالحة لأن ترسل لكبير قدر أو سنٍّ، ولا تصلح أن ترسل إلى غيره، وقد يصلح أن يرسلها شخص ولا يصلح أن يرسلها آخر، وقد تصلح لأن ترسلها لمن يَعْرفك ويَعْرف مقاصدك، ولا يصلح أن ترسلها لشخص لا يعرف مقاصدك، أو لشخص شديد الحساسية سيئ الظن، فمراعاة تلك الأحوال أمر مطلوب، وكم حصل من جراء التفريط بذلك الأدب من إساءة ظن، وقيام لسوق العداوة.

ثامناً: النظر في جوالات الآخرين واستعراض الرسائل دون رضاهم: فذلك من كشف الستر، ومن التطفل المذموم، بل هو ضرب من ضروب الخيانة، وباب من أبواب سوء الظن؛ لأن الناظر في رسائل جوال غيره ربما رأى رسالة ففهمها على غير وجهها، أو ظن أنها أرسلت إلى امرأة يعاكسها وقد يكون صاحب الجوال أرسلها إلى زوجته، وقد تكون الرسالة وردت إليه وهو لم يرض بها، فيسيء الناظرُ الظنَّ في صاحبه وهو براء من ذلك. وهذا يؤكد ما مضى التنبيه عليه من حفظ الجوال، والحذر من إلقائه بين الآخرين، ويوجب أن يستحضر العاقل أنه ربما استعرض الجوالَ غير صاحبه فيرى الرسائل ويكشف الستر، وربما أساء الظن، وينبغي للمرسل أن يحتاط لذلك، خصوصاً النساء؛ لأنه ربما استعرض الجوال زوج صاحبتها، أو أخوها، وربما كان مريض النفس، فكان ذلك سبباً فيما لا تحمد عقباه.

تاسعاً: ترك الإنكار على من أرسل رسالة لا تليق: فهذا مما لا ينبغي، بل على المسلم إذا وصلت إليه رسالة لا تليق أن يبادر في الإنكار على صاحبه بالرفق واللين؛ ففي هذا إقامة لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه تواصٍ بالحق، وتنبيهٌ على الخطأ، وتعليم للجاهل إذا كان المرسل لا يفقه ما أرسل. كما يحسن بالإنسان أن يبادر إلى مسح الرسالة السيئة حتى يسلم من الحرج إذا ضاع جواله، أو نسيه في مكان ما، أو وقع في يد غيره، وما هذا مني إلا تذكير لي ولكم حتى لا نقع في محذور يعقبه الندم والحسرة حمانا الله وإياكم من كل شر وفتنه

أقول قولي هذا ولي ولكم أستغفر الله فاستغفروه إنه كان غفاراً.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى أصحابه وإخوانه، وبعد:

فاستكمالا لحديثنا حول رسائل الجوال، والتنبيهات التي حولها، أقول مستعيناً بالله:

عاشراً: كم من الرسائل الجميلة، والعبارات التي تحمل أصدق عبارات التقدير والثناء والمعزة والإكرام بين الشخص وأصدقاءه، لا تجد عشرها بين الرجل ووالديه أليس أحق الناس بصحبة الرجل والديه، وأين هو من قول ربه {وقل لهما قولاً كريما}.

وأين ربع هذه الرسائل وهذه العبارات بينه وبين زوجته، أما قال الحبيب صلى الله عليه وسلم «خيركم خيركم لأهله».

الحادي عشر: رسالة واحدة كانت لصاحبها ذخراً ورفعةً وأجراً يوم يلقى ربه، صح عن الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في البخاري ومسلم: «لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة»، كتبها وأرسلها إلى عشرة والعشرة أرسلوها إلى عشرات، فكل من قال هذا الذكر بسبب تذكيره كان له أجر قائله، قال - صلى الله عليه وسلم-: «ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئا» ويا سبحان الله يوم يأتي هذا الذي أرسل سنة ودعا إليها يوم يأتي يوم القيامة يوم أن يرى رجالاً ونساءً وقد يكونون بالمئات وأكثر في ميزان حسناته، ألا إن فضل الله عظيم، ألا إن فضل الله عظيم فاستكثروا من فضله رحمني الله وإياكم.. والله الله لابد أن يكون في رسائلنا سهمٌ في الدعوة إلى الله، دلالةً على خير، أو تذكيراً بسنة، أو تحذيراً من معصية أو بدعة، ونحو ذلك.

ولا تحرم نفسك إذا جاءتك سنة صحيحة ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فانشرها، جاءتك دعوة إلى محاضرة انشرها فلك أجر من حضرها بسببك، واستحضر النية الحسنة في ذلك، قال الصحابة يوم أن سمعوا عظم الثواب وكثرة الأجر قالوا: ((إذا نكثر يا رسول الله، قال - صلى الله عليه وسلم - الله أكثر)).

الثاني عشر: من آفات الرسائل التندر والسخرية ووضع النكت على الأقوام والبلدان والقبائل، قال الله تعالى {يا أيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن}، وهذه النكت جلُّها قائمٌ على الكذب وهذا لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للذي يحدّث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ثم ويل له» (أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد).

وقد يغتاب بها المرسل أو الكاتب قبيلة بأكملها فما أثقل الوزر أيها الأحبة: «إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ماليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم».

أيها الأحبة: إن كانت الرسائل كلفتها قليلة أو مجانية في وقت ما، فتذكر أنها ليست مجانية في حساب الله {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.

إن الكلمات التي تكتب وتنقل وتذكر، وتسري في الناس وتنشر، إنها عند الله في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، فلا تنس أخي فلا تنس أخي {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا}.

اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم جنبنا معصيتك، اللهم إنا نعوذ بك من سيئات أقوالنا وأعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من شر ما قد تكتب أيدينا، يا ربنا احفظنا بحفظك، واجعل أناملنا وأيدينا شاهدة لنا يوم نلقاك لا شاهدة علينا...اللهم صل على محمد.


عبد الغني بن عثمان الغامدي