الأمة بين الاستقلالية والتبعية

علي بن عمر بادحدح

أحبت الإسلام لا نريد أن نكون ذات اليمين ولا ذات الشمال، نحن أمة الوسط، نحن أمة العلم، نحن أمة العقل، نحن أمة العدل والسماحة، لكننا أمة تنتمي لتاريخها وتتشبث بجذورها وتحرص على أصالتها وتعتز بإيمانها وتفخر بإسلامها.

  • التصنيفات: التصنيف العام -

الخطبة الأولى:

أوصيكم بتقوى الله فإنها أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

قصة أعجبتني أبدأ بها وأثنّي وأثلث بأمثلة شاهدة عليها.

أما القصة فلجورج وهو أمريكي يعيش في إحدى مدنها قبل نحو أسبوعين، كان يتابع الأخبار ويتحرى دخول العام الهجري الجديد، وينتظر ويترقب ذلك؛ لأنه قبل ذلك ترقب دخول شهر ذي الحجة حتى ثبت هلاله، فلما كان اليوم العاشر من ذي الحجة؛ أخذ زوجه وأبناءه وذهب واشترى ذبيحة ليضحي في يوم العيد، ثم يهنئ بعض جيرانه وأصدقائه بهذا العيد السعيد ولكن بعد أن أنهى ذلك رأى أن الوقت قد تأخر، فعجل وذهب مباشرة ليدرك كنيسته في يوم الأحد ويؤدي عبادته، وكأننا هنا نرى تعارضاً كيف يتحرى ويضحي ويهنئ بالعيد، ثم يذهب إلى الكنسية فما شأنه؟ قالوا لنا في القصة إنه مسيحي نصراني لكنه يهتم بأعياد المسلمين ويتابعها ويقوم فيها بما يقوم به المسلمين ويهنأ المسلمين وغير المسلمين من أصدقائه بها، فتبسم السامع مستهزءاً ساخراً، قال: وهل مثل هذا يصدق في العقل؟ وما سمعنا بأحد في عصرنا هذا يصنع مثل ذلك! فكان الجواب المؤلم المحزن، لكننا نرى لا أقول عشرات من أمثاله ولا المئات بل الآلاف من أبناء المسلمين يتحرون رأس السنة أو رجلها أو ركبتها سموا ما شئتم ويتحرون المناسبات والأعياد ويتبادلون التهاني، ولسنا هنا بصدد حكم شرعي حتى لا يقال إن الأمور فيها تشدد أو إن الأمر فيه سعة وأقوال وفتاوى وإنما أذكر صبغة عامة اثني عليها بشاهد حي، فقد تناقل كثير من الناس على الشبكة العنكبوتية وعبر أجهزة الجوال بالأمس وقبله حتى في بلدنا هذا أمراً عجيباً! قالوا فيه حثاً وعظة إن ليلة السنة تحيى عند النصارى بشرب الخمور ومقارفة الفواحش وارتكاب الزنا فلنحيها نحن بالصلاة والذكر وطاعة الله - سبحانه وتعالى -، واتفق ليلة الأمس أن كان الخسوف والخسوف عبادة ولها صلاة وفيها ما فيها من العظات والعبر كما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

لكنني لأول مرة أشهد أحداً يذكر بالطاعة في مناسبة ليلة رأس السنة الميلادية، ولست أدري وجه هذا التخصيص إن كان في الأيام المعتادة، ونحن نعلم أنه لا تخص ليلة ولا زمان ولا مكان لعبادة إلا لأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة متبعة.

وأعطيكم الثالثة فإن فواجعنا في مثل هذا كثيرة، وأحسب أنكم جميعاً بالأمس شهدتم كثيراً من قنواتنا العربية التي تتحدث بلسان عربي مبين، وكل حديثها وكل شأنها ومقابلاتها ما الذي جرى من أحداث العام المنصرم، واسأل لما لم يصنعوا ذلك عندما انصرم عامنا الهجري قبل أسبوعين فقط! قد يقولون هذه هي العولمة وذلك هو العالم وأقول: إذاً رضينا أن نكون في ذيل القائمة وأن نكون كما يقال: مع الخيل يا شقرا، وأن لا نكون كما قال سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يكن أحدكم إمعة ولكن وطنّوا أنفسكم إن أحسن القوم أن تحسنوا وإن أساؤا أن تجتنبوا إساءتهم».

وأرجو هنا أن لا يقول أحد إنني أبالغ وأكبر الأمر فإني آتي إلى حديثي في حديث إلى ما يبين مقصدي وهدفي، أقول: كل هذا الذي أوجزته غيظ من فيض أما الواقع فإن في بلادنا العربية حتى التي ليس فيها إلى نزر قليل ونسبة ضئيلة من المسيحيين والنصارى تجعل هذه الليلة وتلك الأيام هي أيام الاحتفالات والعطل وما يتعلق بها، وكثيرة هي الآثام كذلك التي ترتكب ويعلن في الصحف والمجلات وعلى شاشات الفضائيات بهذه المناسبات من إحياء الليالي بالغناء والرقص وغير ذلك، وأصبح كثير من أهل الإسلام والعرب لا يكاد يعرف شيئاً من تاريخ هجرته إلا ما قد جعله الله - عز وجل - عصمة ورحمة بهذه الأمة، إذ جعل عباداتها مرتبطة بالتقويم الهجري لا الشمسي، ولست بصدد الحكمة في ذلك فإنها عظيمة فهنا يتنقل الصوم في كل أوقات العام وفي كل الأزمان التي يطول فيها النهار ويقصر فلا يكون على حال يشق على بعض الناس في بلاد دائماً، وإنما يتغير ويتبدل ولكي يكون لذلك عمران متعلق بالقلوب بالكون، وما يجري فيه وليس تواريخ محكمة إذا جاءت عملنا بها بل حتى ذلك التحري وإن ثبت واستخدمنا وقلنا أنه لا حرج من استخدام الأجهزة وحسابات الفلك إلا أن التعبد بتلك الرؤية والتعلق بها فيه آثار أخرى غير مجرد الإثبات الشرعي لدخول الشهر وقيام العبادة.

انتقل بكم الآن إلى صورة هذه الأمة، أمة الإسلام أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أمة القرآن، الأمة الخاتمة إلى قيام الساعة، انظروا صورتها في بضع آيات من كتاب الله وفي يسير من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعرض هذه النصوص مع تعليق يسير وأترك لكم بعد ذلك أن تقولوا هل ما ذكرته يستحق أن نقف عنده وأن نرى أنه أمر ينبغي لنا أن نجتنبه وألا نكون عليه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران/110] هذه الغاية التي أرادها الله منكم معاشر المسلمين، أمة أخرجت أخرجها الله - سبحانه وتعالى - قدر الله أن يخصها بخير نبي مرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين - عليه الصلاة والسلام - قدر الله أن يكرمها وأن يعصمها بالكتاب المحفوظ إلى قيام الساعة، ولذلك قال {أخرجت للناس}، أخرجت للناس لهدايتهم لأمرهم بالمعروف، لنهيهم عن المنكر، لتكون في مرتبة الأستاذية الموجهية المرشدة، لتكون في موضع القيادة الرائدة الهادية، فكيف ستكون كذلك وهي في تاريخها تبع لغيرها، وهي في صور هزيلة من أوضاعها تقلد هؤلاء وتسير في إثر أولئك.

وتأملوا معي كذلك قول الحق - جل وعلا -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة/143] أمة وسطا أي: عدولاً وخيراً، وقد أفاض أهل العلم في وسطية الإسلام بين الأديان، ووصية أهل السنة بين الفرق التي انحرفت وظلت وزاغت، وليس هذا موضع حديثنا لكن {لتكونوا شهداء على الناس} هكذا أراد الله أن هذه الأمة في مجموعها وعند إجماعها شهادتها حق لا يتطرق إليه الباطل.بها خيراً فقال: «وجبت» ثم مرت أخرى فذكروا صاحبها بشر فقال: «وجبت» قالوا ما وجبت يا رسول الله، قال: «مرت جنازة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع بعض أصحابه فاثنوا على صاحأثنيتم عليه بخير فوجبت له الجنة وذكرتموه بشر فوجبت له النار أنتم شهود الله في الأرض» كيف ستكون شهادة أجيال أمتنا أو هذه الطوائف والمجموعات التي لا يكاد المرء يفرق بين أحد وبين غير المسلم، أصبحت التواريخ تواريخهم واللسان اليوم أعجمي يرطن باللغات الأجنبية حتى في الحديث المعتاد، حتى في التحية والسلام، حتى في أدق الأمور وأكثرها، بل ربما صار ذلك مبعثاً للفرح والفخر.

ونحن اليوم نعلم أن كثيرين منا يسوقون أبنائهم ليتعلموا منذ نعومة أطفالهم بلسان أعجمي مبين ليكونوا في مكانة عالية سامقة، لا أقول إننا لا نريد أن نتعلم اللغات ولكنني أقول لكم: انظروا إلى العالم أليست هذه الصين دولة عظمى، أليست اليوم تنافس على القيادة، إن لهم سنة صينية لا أعرف أحد منكم يعرف متى تبدأ ولا متى تنتهي، لكنهم يقيمون لها احتفالاتهم ولا يقولون: إننا في عالم صغير وقرية واحدة ولكنهم يتحدثون الصينية ولا يكاد كثيرون منهم يتحدث عن غيرها، وتوسع الأمر الآن فتحدثوا لغات لأجل تسيير الأعمال فحسب لكن لغتهم أصيلة، ودولة الخمسة مليون نسمة التي إن بحثتم الآن في جيوبكم وجدتموها دولة نوكيا وفنلندا، هذه الدولة التي كنا نتعامل معها بأجهزتها سكانها 5 مليون لا يتحدث لغتهم هذه إلا هؤلاء ليست كالإنجليزية ولا الفرنسية ولا غيرها، يدرسون بها من الابتدائية إلى شهادة الدكتوراة ويصنعون بها الأجهزة وينافسون بها في العالم كله، ليست قضية اللغة هي التي تقدمنا أو تؤخرنا بل ذاتيتنا واستقلاليتنا وقوتنا وإرادتنا وانتفاضتنا من هذا الكسل الحضاري ومن هذا الموت العلمي ومن هذا التخلف التقني ومن هذه الصور التي نبقى فيها مع صواغر الأمور وتوافهها ولا نسمو إلى معاليها ومراقيها.

وهنا قال مجاهد في هذه الآية مَّةً {وَجَعَلْنَاكُمْ أُسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} قال شهداء لمحمد - صلى الله عليه وسلم - على الأمم اليهودي والنصارى والمجوس.

وعن قتادة - رحمه الله - قال: "لتكون هذه الأمة شهداء على الناس أن الرسل قد بلغتهم ويكون الرسول شهيداً على هذه الأمة على أنه بلغ ما أرسل به، ولقد أدى الرسول أمانته وكان في كثير من أحاديثه على مشهد الناس يقول: «اللهم هل بلغت اللهم فاشهد» فأين وكيف ستكون شهادة بعض أفراد الأمة على الأمم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".

وهنا استحضر الحديث وإن كان لا يتطابق مع هذه الحالة بالضرورة لكنه ينبه إليها يوم يأتي يوم القيامة ويرى النبي - صلى الله عليه وسلم - فئام من أمته يقادون إلى النار يرجعون القهقرى فيقول: «أمتي أمتي» فيقال له: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) والإحداث كل أمر خالف سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صغير أو كبير وكل بحسبه والقسطاس والميزان دقيق بين يدي الله - عز وجل -.

وأمضي بكم إلى سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - وهو يتحدث عن أمته وهو يبلغكم ما هي الصورة التي أرادها الله لهذه الأمة وقارنوها بعد ذلك بما سمعتم أو ما أشرتم إليه من هذه التفاهات، روى ابن عمر في الصحيح عند البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل لي من غدوة إلى منتصف النهار على قيراط من أول اليوم إلى الظهيرة فقالت اليهود نحن، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر على قيراط أي بهذا الأجر فقالت النصارى: نحن فعملوا، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين، قال الرسول: فهم أنتم، فقالت: اليهود والنصارى وقد غضبوا مالنا نعمل كثيراً ونؤجر قليلاً فيقول الحق - جل وعلا -: «أظلمتكم من حقكم شيئاً» فقالوا: لا، فقال: «فذلك فضل الله أوتيه من أشاء» فضل الله هذه الأمة ليس تفضيلاً جينياً في تركيبتها، لكنه اختار لها كتاباً معصوماً محذوراً ورسولاً خاتماً معصوماً، واختار أن تكون آخر الأمم فجعل لها خصائص قد سبقت أن أشرنا إليها في أحاديث أخرى سابقة.

وهنا أنقلكم إلى حديث أبو هريرة أيضاً وهو في الصحيح عند البخاري وغيره قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنا أوتينا الكتاب من بعدهم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله - سبحانه وتعالى - له فالناس تبعٌ لنا اليهود غداً والنصارى بعد غد» نحن الآخرون أي زماناً السابقون أي فضلاً وقدراً ومكانا وإن أوتينا الكتاب من بعدهم لكنا هدينا إلى هذا اليوم الأغر يوم الجمعة، واليهود من بعدنا في سبتهم، والنصارى من بعدنا في أحدهم، ولا أظنه يخفى عليكم أن بعض بلادنا العربية الإسلامية تعمل يوم الجمعة وتعطل في يومي السبت والأحد، ولئن قلنا أمر اقتصادي فإن خيار الجمعة والسبت قد يكون منطقياً على أقل تقدير أما الذين جعلوا الجمعة وقد كنت في بلد عربي قبل سنوات عدة والناس يصفقون في الأسواق ويتحركون في الطرقات والخطيب يخطب في مسجده ودخلت المسجد وعند الباب مقهى والشيشة تؤخذ والسجائر تدخن ولا كأنك تشعر بأنك في بلد مسلم عربي.

ليست القضية في مظهر - كبرنا أو ضخمنا الحديث عنه- وليست القضية في أننا كما يقولون معاشر المتدينين نجعل من الحبة قبة، لكنني أقول أين سمت الأمة! الأمة التي أرادها الله - جل وعلا - الاستقلال لا التبعية والتميز، لا التميع أليست هذه هي أحاديث رسولكم - صلى الله عليه وسلم - ألسنا نحن ننتسب إلى محمد فنقول: إننا أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ولو مضيت بكم لرأيتم كثيراً.

وتصديقاً لهذا الحديث عن الجمعة جاء حديث أنس في مسند البزار قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني جبريل وفي يده مرآة بيضاء فيها نكتة سوداء فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة يفرضها عليك ربك لتكون لك عيداً أو لقومك من بعدك تكون أنت الأول واليهود والنصارى من بعدك» هذا قدر يسير من التفضيل والتمييز لهذه الأمة فأين هي منهم.

وأما سمة أخرى أذكر بعض أحاديثها كذلك وهي سمة ألا نكون كغيرنا أن نكون متميزين بإسلامنا بإيماننا باقتدائنا برسولنا باستمساكنا بكتابنا برجوعنا إلى تاريخنا بشواهدنا وبحضارتنا العظيمة التي انسلخ كثير من أبناءنا منها وصرنا لا نكاد إلا نعرف ما استجد وإن كان ما استجد عظيم فإنما بني عليه كان عظيماً ولا نقول نعيش مع التاريخ ولكن نقول: ذلك لنستأنف الحاضر ونبني المستقبل.

هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تعرفون في الحديث المشهور المحفوف من رواية أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه» قال يا رسول الله اليهود والنصارى قال: «فمن».

ولا أريد أن أذكر شواهد لبعض صور شبابنا وشاباتنا في تقليدهم الأعمى حتى بلغ الأمر بالفعل حقيقة وليس إدعاءً أن بعضهم غير اسمه العربي الإسلامي إلى اسم غربي أو بعضهم سمّى أبنائهم بأسماء هذا أو ذاك فتنة وتعظيماً.

والأمر في هذا يطول وحديث عائشة - رضي الله عنها - تروي لنا اللحظات الأخيرة من حياة سيد الخلق - صلى الله عليه وعلى آله وسلم تقول وهو يغشاه المرض ويغطي وجهه ويكشفه ثم يقول: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» ثم تقول عائشة يحذر أمته مثلما صنعوا.

ولا أحتاج أن أقول إن في بعض بلاد المسلمين ما هو مشابه لما فعلته اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم.

ومر بنا في الجمعة الماضية حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما صام عاشوراء قال له بعض المسلمين: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى قال: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر» تميز مع فضل وزيادة لأننا لا نكون تبعاً بل لابد أن نكون في الريادة والقيادة.

وهذا أيضاً حديث أبي هريرة عند أبي داود في السنن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر» أي في رمضان لأن اليهود والنصارى يؤخرون.

ولقائل من هؤلاء المعترضين والكتاب والصحفيين أن يقول إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبالغ، وما هي أن يؤخر الفطر أو يعجل قليلاً، وما أهمية ذلك وأن يربط باليهود والنصارى! أقول بالعكس لا تقولوا مثل هذا، بل قولوا إن الرسول يعلمنا، إنه - صلى الله عليه وسلم - ينبهنا أن القليل العارض لا ينبغي الالتفات إليه؛ لئلا يكون ما وراء ذلك من العظيم الذي لا يستطاع بعد ذلك ضبطه، ويتسع الخرق على الراقع كما نرى اليوم وكما نرى من صور ذلك وشواهده والأمر كثير.

وحديث شداد بن أوس قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خالفوا اليهود والنصارى فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا في نعالهم» (رواه أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه كذلك).

وحديث جابر - رضي الله عنه - عند النسائي في السنن الكبرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تسلموا تسليم اليهود والنصارى فإن تسليمهم بالأكف والرؤوس والإجارة» والأمر في هذا يطول كثير.

وقد قال معاوية - رضي الله عنه -: "إن تسوية القبور من السنن، وقد كان اليهود والنصارى لا يفعلونه" والأمر كما قلت يطول.

وهنا وقفتي الأخيرة لكم هل رأيتم مثل هذه الأحاديث في جملتها تعد أمراً مبالغاً فيه، تعد تضخيماً وتشدداً إسلامياً كما يقولون، تعد إملاقاً وعدم انفتاح ووعي بالعصر كما يكتبون! كلا أيها الإخوة الأحبة إننا نريد أن نعتز بديننا وإيماننا، نريد أن نفخر بأمتنا وتاريخها نريد أن نبقى مرتبطين بكل ذلك، وأن نعيش واقعنا، وأن نعرف تواريخ القوم، وأن نعرف مناسباتهم، وأن نعرف كل ذي حق حقه، فلسنا أمة الإسلام أمة ظلم، بل نحن أمة عدل، ولسنا أمة جهل بل أمة علم، نحن الذين نعرف الحق من الباطل فنقيم الحق ونبطل الباطل، وليس في مثل هذا تشدد بل هو الوعي والإدراك الذي يجعلك تتعامل وأنت على بصيرة تتعامل وأنت على أرض صلة، تتعامل وأنت في نفسك من اليقين والقوة مالا تكون منحنياً فيه أمام الآخر ولا تذوب فيه ذوباناً ولا تنساق وراءه تبعية، فإن أمة الإسلام أعز وأجل من ذلك.

الخطبة الثانية:

أوصيكم بتقوى الله - سبحانه وتعالى - في كل آن وحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران/102].

وإن من تقوى الله - سبحانه وتعالى - امتثال أوامره واجتناب نواهيه ومن ذلك ما يتعلق بتميز الأمة أفراداً ومجتمعات عن غيرها من الأمم من سائر الديانات، وليس في ذلك كما قلنا نوع استكبار واستعلاء، ولكنه تميز بهذا الإيمان وتفرد بهذا الإسلام وافتخار بمتابعته والاستمساك بالقرآن وتشرف بالانتساب والإتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن أمة لا يكون عندها التعظيم لدينها ولا التوقير لتاريخها ولا الارتباط بكتابها ولا الافتخار والاتباع لرسولها تكون أمة ضائعة لا قيمة لها وكما قلت أيها الأخوة: انظروا إلى أمم الأرض كلها في صينها وفي هندها وفي غير تلك البلاد.

زُرت الصين قبل أكثر من عقد من الزمان فوجدت عندهم أمراً عجباً، وجدتهم يسمحون ببناء المساجد ويمنعون بناء الكنائس، فعجبتُ من ذلك فلما تحريت، قالوا: إن الكنائس لابد أن تتبع إلى الكنيسة الأم في روما أو في أثينا كما هو معلوم، ليس هناك كنيسة تبنى هكذا لابد أن تكون لها تبعية وأن يكون فيها تعيين، قالوا: ونحن لا نقبل أن يكون هناك شيء خارجي من خارج أرضنا وديارنا، أما المسجد فليس هناك مسجد يتبع لمكة أو يتبع للمدينة أو يتبع للعراق أو يتبع للشام أو غير ذلك فهو مسجد كما يقال صيني 100% فكانوا يبنون المساجد في ذلك الوقت ويمنعون الكنائس، ولا أدري ما حالهم اليوم لكنهم يريدون أن يقولوا: نحن نريد ما يجعلنا على حالنا وبما يختار أبناؤنا لا بما يأتينا من خارج يفرض علينا.

وهكذا ترون أمراً عجباً وفي ذلك الوقت الذي زرت فيه بلادهم كان أن تجد رجلاً يتحدث لغة غير الصينية أمراً كأنما هو من المعجزات، حتى إنك تقع في أمور مزعجة أو ربما مربكة لأنك لا تستطيع أن تصل إلى مبتغاك إلا بأن تستعين بالآخرين وهكذا، لم يقل هؤلاء وكل الذين تقدموا في الصناعة وغيرها والتقدم العلمي لم يقولوا: فلنتأخر أو فلننحي لغتنا فإنها العائق أو فلننخي تاريخنا فإنه العائق، بل حفظوا ذلك وعرفوا أنهم لابد أن يأخذوا بالأسباب المادية العلمية بدلاً من هذا التناحر الذي نراه والاختلاف على مباريات في كرة القدم، والتنازع على أمور صارت فيما بين بلادنا العربية والإسلامية أضعاف أضعاف ما هو بيننا وبين أعدائنا الذين يمكرون بنا ويعتدون علينا، بل صرنا نحن ننافس الأعداء منافسة عظيمة فلئن بنوا جداراً من الإسمنت بنينا جداراً من الفولاذ، ولئن فعلوا ما يفعلون بطشاً فعلنا منهم ما هو أكثر منهم وأعظم، وهكذا وجدنا صورة مشوهة ثم بعد ذلك أن نُطقت كلمة الحق قالوا هذا فيه كذا وكذا وذلك نوع من عدم المعاصرة والمعايشة.

أحبت الإسلام لا نريد أن نكون ذات اليمين ولا ذات الشمال، نحن أمة الوسط، نحن أمة العلم، نحن أمة العقل، نحن أمة العدل والسماحة، لكننا أمة تنتمي لتاريخها وتتشبث بجذورها وتحرص على أصالتها وتعتز بإيمانها وتفخر بإسلامها.

وكما قال الفاروق عمر لقد أعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.

أسأل الله - عز وجل - أن يبدل أمتنا من بعد ضعفها قوة ومن بعد فرقتها وحدة ومن بعد ذلها عزة.