فوق الأعراف

محمد علي يوسف

يعرفون أهل الحق لكنهم مع معرفتهم لم يختاروا أن يكونوا معهم، ويعرفون أيضًا أهل الباطل ويصحبونهم، ويسكتون عن باطلهم لكنهم أيضًا لم يختاروا الانحياز الكامل إلى صفهم، هكذا كانوا في حيرة في الدنيا، وهكذا تستمر الحيرة هناك خارج الجنة، حين يعرفون كل صنف بسيماه وعلاماته المميزة.

  • التصنيفات: تزكية النفس -

بينما يلهو الصبية على شاطىء البحر وتتعالى أصواتهم وهم يتسابقون، لتحتضنهم أمواجه ويختلط رذاذه بأعينهم الضاحكة، جلس هو يرمقهم من بعيد! عيناه طامعتان للحاق بهم ومشاركتهم لهوهم البريء، كلما تشجع واقترب، وأخيرًا مست قدماه الصغيرتان أطراف الأمواج المتكسرة وابتهج بإقباله على المتعة المنتظرة، تجددت مخاوفه ونزع قدميه بسرعة وعاد أدراجه مبتعدًا عن الماء مكتفيًا بالمشاهدة والتمني، وكأن البحر ينتظر دخوله هو تحديدًا ليبتلعه!

ظل الصبي على هذا الحال المتردد حتى انقضى اليوم دون أن يبتل في بدنه شيء إلا أطراف أصابع قدميه، رحل متحسرًا وقد منعه خوفه غير المبرر من الاستمتاع بما استمتع به رفاقه الذين أقدموا ولم يهابوا، إن علاقة (الأعرافيين) بالطاعات تشبه علاقة هذا الصبي بأمواج البحر، يخشون أن يخوضوا غمار الطاعات ويهابون الإيغال في القربات ولو برفق!

والأعرافيون هو اللفظ الذي اخترته لتسمية ذلك الصنف من الناس الذي ذكره الله في السورة التي تحمل اسمًا شبيهًا: الأعراف.. المكان الذي يفصل بين أهل الجنة وأهل النار
{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46]، كانوا دائما بين بين..!

يعرفون أهل الحق لكنهم مع معرفتهم لم يختاروا أن يكونوا معهم، ويعرفون أيضًا أهل الباطل ويصحبونهم، ويسكتون عن باطلهم لكنهم أيضًا لم يختاروا الانحياز الكامل إلى صفهم، هكذا كانوا في حيرة في الدنيا، وهكذا تستمر الحيرة هناك خارج الجنة، حين يعرفون كل صنف بسيماه وعلاماته المميزة.

وكما عرفوا أهل الجنة ونادوهم فإنهم كذلك يعرفون المجرمين أصحاب النار: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47]، إنهم يخافون هذا المكان الموحش القاسي، ويدركون أنهم ليسوا بمعزل عنه بسبب تقصيرهم وبعدهم عن طاعة الله وتذبذبهم بين هؤلاء وأولئك.

وإن من الناس من يعيش حياته بنفس التذبذب، إنه نمط من الخلق لا يحدد وجهته أو يحسم أمره، أو يفصل في اختياراته فيسلك سبيلاً إلى نهايته، نمط يعيش على الأعراف في الدنيا بين الحق والباطل، ويُخشى عليه أن يكون من أهل أعراف الآخرة.. 

ومشكلتهم ببساطة تكمن في الاختيار، في القرار الفصل، في الحزم والحسم، الأعرافيون لا يعرف عنهم فجورًا ظاهرًا أو معاصي كبرى، آفتهم أنهم لم يقرروا ولم يتذوقوا، وإذا ذاقوا لم يغترفوا، وإذا اغترفوا لم يثبتوا..!

ولقد تركت الآيات مصيرهم معلقًا كما كان قرارهم في الدنيا معلقًا، ولقد كان وقوفهم يوم القيامة طويلاً في المنتصف على الأعراف، لأنهم في الدنيا كانوا في المنتصف أيضًا، نعم وردت الآثار أنهم سيدخلون الجنة بعد حين، لكن السؤال هنا: متى؟! بعد كم عام من الانتظار؟!

وأي عذاب نفسي هذا الذي يتعرضون إليه وهم ينظرون إلى البشر من حولهم يساقون إلى الجنة وإلى النار، وهم باقون منتظرون خائفون ويطمعون، صحيح أنه عذاب نفسي لم يرد الخبر فيما نعلم أن عذابًا ماديًا يصاحبه، لكن في النهاية هو أمر صعب استحقوه بتميعهم وتذبذبهم البارد، وحرجهم من سلوك طريق الحق.. 

فما أشد خوفهم وما أعمق حزنهم حين ينظرون إليها ولم يدخلوها وهم يطمعون، تمامًا كما كانوا يرقبون السبيل في الدنيا ولم يلجوه، فاستحقوا ذلك المكان الموحش والشعور القاسي الذي لخصته تلك الجملة القرآنية الجامعة: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف من الآية:46].

إنها جملة يظهر منها استشرافهم الجارف للدخول، ورغبتهم العارمة في التنعم بنعيمها..
لكنه يومئذ سيكون -ولمدة لا يعلمه إلا الله- مجرد طمع لا يترجم لفعل، كما لم تترجم ادعاءاتهم في الدنيا لعمل حقيقي وانحياز واضح للحق.

وحين ينقضي وقت العمل وقد زهدوا فيه من قبل فإنهم يدفعون الثمن من خلال ذلكم الشعور الموحش، والرغبة الشديدة في دخول الجنة، تلك الرغبة التي لم تكن بذات الوضوح هنا في الدنيا حين لم يقرروا ولم يحسموا خيارهم، فاستحقوا مكانهم هنالك..

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام