الوصية .. الوصية

عبد الملك بن محمد القاسم

  • التصنيفات: الموت وما بعده -
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :

فالموت نهاية كل حي لا ريب في ذلك ، ولا شك حيث يقدم هادم اللذات على المرء في صحة أو مرض ، ويقظة أو سبات فلا يرد .
ينقل الإنسان من مرحلة إلى مرحلة مثلما ينتقل في الدنيا من منزل إلى آخر .

لقد قطع الموت وما بعده قلوب الخائفين ، وألزمهم الصراط المستقيم ، فاستعدوا للموت وأعدوا له العدة .

ومما يأنس بها الميت بعد موته ويعود أثرها عليه : الوصية حيث يجري له عمله بما أوصى به بعد فراق الدنيا ، امتثالاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ، صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له »

وحيث أن الوصية قد ضيعها البعض ، ولما لها من أهمية تغافل عنها آخرون ، آلمني ذكر بعض الحوادث التي تقع فتحزن وتبكي وللقارئ ثلاث منها وهو يرى ويسمع أضعافها !

. رجل موسر يملك ملايين الريالات ويعيش في بحبوحة من العيش وسط أموال تغدو وتروح ، وأبناء تجاوز عددهم العشرة ، ولما سقط طريح الفراش إثر نوبة مفاجئة أسر إلى من توسم فيه الخير من معارفه وقال :
أريد أن أبني مسجدا ، وبعد بحث وعناء أخذ قرابة ثلاثة أسابيع وجد ضالته ، وسارع بالخبر إلى الرجل الموسر في المستشفى فإذا به يعلم أن الله عز وجل أنزل الشفاء عليه ، فذهب إلى منزله زائراً ومهنئا بزوال البأس ، ولما أراد أن يودع التاجر أبان له أنه وجد المسجد المطلوب ، فقال التاجر :
ليس الآن فيما بعد يكون خيرا ، ومد في إخراج الحروف بما تعني من طول مدة !

وبعد سنتين عاود المرض التاجر ، وأدخل المستشفى وكرر النية وصرح لنفس الرجل أنه يريد بناء مسجد ، ولكن الأيام تسارعت به إلى الآخرة ، والرجل لايزال يبحث عن مسجد ، فإذا به يسمع عن وفاة التاجر !

وعندها قال : بعد أسبوعين أو ثلاثة أنقل هذه الرغبة لأبنائه ، لعلهم أن يقوموا بتنفيذ رغبة والدهم ولكنه وجد جفاء وغلظة ، وعدم تقبل لأمر بناء المسجد من الأبناء العشرة !

والطامة الكبرى التي أهمت الرجل أنه علم أن هذا التاجر الذي يملك ملايين الريالات لم ولا بأضحية ، أو حجة من هذا المال الوفير .
والأبناء بخلوا أو أحجموا عن بناء المسجد من مال والدهم الذي جمعه هما وغما في سنوات عمره الطويلة وتركه لهم ، عليه غرمه ولهم غنمه !

. أما الآخر وكان يملك مثل سابقه من الأموال والدور والقصور ، ولم يوصي بشيئ من ماله الوفير ، ولما توفي كان لهم قريب يحب هذا التاجر ، لمعروف أسداه إليه فتسبب في جعل أضحية لها في العام الأول ، ولما أتى العام الثاني تثاقل أبناؤه عن إعطائه مبلغاً يسيراً هو قيمة أضحية عن والدهم ، ولكنهم في النهاية دفعوا له خمسائة ريال على مضض وطول إلحاح ومتابعة ! ولما أتت السنة الثالثة قال له أكبرهم ومن يظن أنه أبرهم بأبيهم قال بصوت مرتفع : يكفي ضحينا له مرتين أو ثلاثا .

وهكذا ذهبت الملايين التي جمعها ، بخل عليه أبناؤه بصدقة ، وبخل هو على نفسه بوصية يوصي بها لأعمال البر والخير ، أليس هو أحق بنفع المال الذي جمعه وكد وتعب في تنميته ؟

. أما الثالثة وهي تحزن وتدمي الفؤاد ، لمعرفتي بصاحبتها عن قرب ، إذ ورثت مالاً وعقاراً مشاعاً بين الورثة ، ولكن المال كان يدار ويستثمر في شركة كبيرة تشمل العقار ، والمصانع ، والأسهم ، والتجارة ، فلما سألتهم مالها وكان يقدر بالملايين قالوا لها : ليس لدينا مبالغ حاضرة وهي ضمن أعمال الشركة .
وتعجبوا : ماذا تريدين ؟ وماذا ينقصك ؟ ودارت الأيام وهي تكرر السؤال على حياء حتى أتاها ملك الموت وهي لم توص ! وعاد مالها للورثة ؟ ولم تجعل لنفسها منه ، ولم يطلها حية أو ميتة !

أما الموفقون فإنهم أوقفوا في حياتهم وجعلوا وصية ملزمة بعد مماتهم .

كم منا من يموت ولايوجد له وصية تبرئ ذمته من حقوق الناس أولاً ، ثم تجعل له نصيباً من الخير يجري له بعد موته خاصة مع ما أفاض الله عز وجل علينا من أموال وبسطة في الرزق .

كم منا من يموت ولم يعهد بوصية لأبنائه فيها نصيحة وتنبيه ، وإن كان لديه أطفال قصر عهد بهم لمن يرعاهم ممن يأنس فيه المقدرة والرعاية من أقاربه ومعارفه بدلاً من أن يكونوا عرضة للشتات أو للمطامع .

ولأهل الخوف من كتابة الوصية : فإنها لاتقدم في الأجل ولا تؤخر في الموعد ، وهنالك من أوصى منذ ثلاثين سنة أو أكثر ، ولكل أجل كتاب .

فالمبادرة المبادرة بهذا الخير الذي دل عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله « ما حق امرئ مسلم له شيئ يوصي فيه ، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده » رواه البخاري
قال الإمام الشافعي : من صواب الأمر للمرء أن لاتفارقه وصيته .
وقد قال عليه الصلاة والسلام « ومن مات وقد أوصى مات على سبيل وسنة » رواه ابن ماجة

وقال بكر المزني : إن استطاع أحدكم أن لايبيت إلا وعهده عند رأسه مكتوب فليفعل ، فإنه لايدري لعله أن يبيت في أهل الدنيا ويصبح في أهل الآخرة .

وأوجه البر كثيرة : من فقراء الأقارب غير الوارثين ، وعمارة المساجد ، وخدمتها ، وبناء الأربطة ، وقضاء ديون المعسرين ، وتعليم القرآن وسقي الماء ، وطبع الكتب المفيدة ، والوصية بالحج والأضاحي عن نفسه وغيره ، وهذا الباب بفضل الله واسع ووجوه البر فيه لا تنحصر .

ومن آداب الوصية أن يوصي المسلم بنيه وأهله وأقاربه ، ومن حضره واطلع على وصيته بتقوى الله وطيب العمل ، وأن لكم في إبراهيم وبنيه عليهم السلام أسوة ، وفي نبيكم محمد صلى الله عليه و سلم أعظم قدوة { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [البقرة:132]
وأوصى محمد صلى الله عليه وسلم بكتاب الله ، وقال صلى الله عليه وسلم « الصلاة الصلاة ، وما ملكت أيمانكم » رواه أحمد

وحذر من الفتن ، وأمر بالطاعة ولزوم الجماعة ، وأوصى بأصحابه السابقين وبالمهاجرين وأبنائهم ، كما أوصى ابنته فاطمة رضي الله عنها إذا هو مات أن تقول : إنا لله وإنا إليه راجعون .

أخي المسلم : هذه صيغة مأخوذة من جملة ما أوصى به بعض أئمة الإسلام من الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم ، حيث رأوا أن يقول فلان :
وهو يشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له إلهاً واحداً فرداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يشرك في حكمه أحداً ويشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ويشهد أن عيس عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق وأعده الله لأوليائه حق ، والنار حق ، وما أعده الله لأعدائه حق ، وهو قد رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ، وبالقرآن إماما ، على ذلك يحيى وعليه يموت إن شاء الله ، ويشهد أن الملائكة حق والنبيين حق وإن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور .

ثم يقول : اعلموا أني مفارقكم وإن طال المدى ، فهذه أدوات السفر تجمع ، ومنادي الرحيل يسمع والمرء لو عمر ألف سنة لابد له من هذا المصير كما ترون
إن الله كتب الموت على بني آدم فهم ميتون ، فأكيسهم أطوعهم لربه ، وأعملهم ليوم معاده ، وهذه وصية مودع ونصيحة مشفق ، حسبي وحسبكم الله الذي الذي لم يخلق الخلق هملا ، ولكن ليبلوكم أيكم أحسن عملا { يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [البقرة:132] ، { يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان:13]

{ يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ، ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لايحب كل مختال فخور } [لقمان:17-18]

أعظم فرائض الله بعد التوحيد الصلاة ، الله الله في الصلاة ، فإنها خاصة الملة ، وأم العبادة ، والزكاة أختها الملازمة ، والصوم عبادة السر لمن يعلم السر وأخفى ، والحج مع الإستطاعة ، ركن واجب ، هذه عمد الإسلام وفروضه ، فحافظوا عليها ، تعيشوا مبرورين وعلى من يناوئكم ظاهرين ، ولا تخوضوا فيما كره السلف الخوض فيه ، وعليكم بالعلم النافع ، فالعلم وسيلة النفوس الشريفة ، وشرطه الإخلاص والخشية لله مع الخيفة وخير العلوم علوم الشريعة ، وانبذوا العلوم المذمومة ، فإنها لاتزيد إلا تشكيكا .

وأطيعوا أمر من ولاه الله عليكم ، واجتنبوا الفتن وأسبابها ، والكذب عورة لاتوارى ، وحافظوا على الحشمة والصيانة ، وأوفوا بالعهد وابذلوا النصح ، ولاتبخسوا الناس أشياءهم ، ولاتطغوا في النعم ، ولاتنسوا الفضل بينكم ، ولا تنافسوا في الحظوظ السخيفة ، وإذا أسديتم معروفا فلا تذكروه ، وإذا برز قبيح فاستروه ، وأصلحوا ذات بينكم ، واحذروا الظلم ، وصلوا الأرحام ، وأحسنوا إلى الجيران ، واعرفوا حق الأكابر ، وارحموا الأصاغر ، واحذروا التباغض والتحاسد ، واعلموا أن جماع الأمر تقوى الله .

كان الله خليفتي عليكم في كل حال ، وموعد الإلتقاء دار البقاء ، والسلام عليكم من حبيب مودع ، والله يجمع إذا شاء هذا الشمل المتصدع .

ثم يذكر ما أوصى به من ماله وأوجه نفقته ، وينص على اسم وكيله على ذلك ويذكر الديون التي له والتي عليه ، ثم يسمي وصية على أبنائه القصر وغير ذلك من الأمور .

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .


دار القاسم : المملكة العربية السعودية - ص ب 6373 الرياض 11442
هاتف : 4092000 / ناسوخ : 4033150
البريد الإلكتروني : [email protected]
الموقع على الإنترنت : www.dar-alqassem.com
المصدر: دار القاسم