(4) عدنان صادق الدبسي

عبد الرحمن بن معاضة الشهري

فتحت المذياع على إذاعة الرياض، ونافذة السيارة مفتوحة وهواء جبال السروات هواء عليل في أوقات الصباح لا يُمَلُّ، وإذ بصوت المذيع المميز عدنان صادق الدبسي ، فهو من أروع وأجود من سمعته في إذاعة الرياض وإذاعة القرآن الكريم حتى اليوم.

  • التصنيفات: الدعاة ووسائل الدعوة - طلب العلم - قصص مؤثرة -

خرجتُ يوم الأربعاء 12/6/1412هـ من كلية الشريعة وأصول الدين في أبها عند الساعة الحادية عشرة صباحاً متجهاً إلى النماص التي تبعد عن أبها ما يقارب مائة وأربعين كيلاً شمالاً باتجاه مكة المكرمة، وكنتُ أملك سيارة كورولا، وكانت تلك عادة لا أتركها أسافر كل أربعاء للنماص وأعود مساء الجمعة براً بوالدي رحمه الله ووالدتي حفظها الله حيث كانا يقيمان في النماص بمفردهما ولم يبق لهما إلا أنا بعد تفرق أشقائي وشقيقاتي في البلاد، فأذهب لأقضي لهما ما يحتاجان إليه ثم أعود، وهكذا.

وبعد أن قطعتُ من الطريق مسافةً طويلة وقاربت الساعة الحادية عشرة وأربعين دقيقة ربما، فتحت المذياع على إذاعة الرياض، ونافذة السيارة مفتوحة وهواء جبال السروات هواء عليل في أوقات الصباح لا يُمَلُّ، وإذ بصوت المذيع المميز عدنان صادق الدبسي (الله يذكره بالخير)، فهو من أروع وأجود من سمعته في إذاعة الرياض وإذاعة القرآن الكريم حتى اليوم، في نبرة صوته أبعاد لا أجدها في صوت غيره، مع ثقافةٍ عاليةٍ، وحسن قراءةٍ، وكانت له برامج قديمة في غاية الروعة منها أعلام المفسرين من الصحابة و أعلام المفسرين من التابعين، وأنا أحاول جاهداً الحصول على نسخ من تلك البرامج لرفعها للملتقى بإذن الله .

وإذا به في برنامج لا أذكره يتكلم عن كتابٍ من كتب الأدب، ويذكر بعض أخبار مؤلفه، ومميزات الكتاب، ولم أعرف الكتابَ بعدُ، فجنَّبْتُ على الطريق في منطقةٍ اسمها (صَبَحْ) من بِلادِ قبيلة بللحمر بل هي حاضرة بللحمر، وحاولتُ أن أُصفِّي صوت المذياع أكثر لأن الإذاعة لا تصلنا في الجنوب إلا وقد ذهبت الرياح بأكثرها ولم يبق إلا بقايا الإذاعة، وإذا به يقول: "وكان لابن الأثير غير كتابه هذا  (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) مؤلفات أخرى ..." وأخذ يسردها. فكتبت اسم المؤلف، واسم الكتاب، وكنتُ حينها مشغوفاً بالأدب أقرأ في كتبه، وأحفظ من الشعر الجيد الذي أجده ما أستطيع.

ففكرت للحظة بالرجوع لأبها لشراء الكتاب، وكنت قد ابتعدتُ عن أبها مسافة قد تقارب المائة كيلو أو أقل قليلاً، والظهر اقترب وستغلق المكتبات، ثم تذكرتُ ما قاله عدنان الدبسي عن الكتاب، وقراءته لبعض المختارات منه، فانعطفت بالسيارة ورجعت إلى أبها مرة أخرى، وقلت في نفسي: "أرجع لأبها فأتغدى هناك، ثُمَّ أبحثُ عن الكتاب بعدَ العصرِ وأشتريه وأسافر للنماص مرة أخرى، ولن يفوتني شيء ذو بال، وسأقرأ الكتاب هذين اليومين حتى الجمعة".

وفعلاً رجعتُ أبها، وتغديت في أحد المطاعم، وانتظرتُ حتى أذن العصر ثم صليت قريباً من مكتبة تسمى مكتبة الجنوب، وكانت من أجود المكتبات في أبها ذلك الوقت، ولما فتحت المكتبة بعد العصر كنت أول داخل لها مع البائع وكان أخاً هندياً محباً للكتب يعرفني وأعرفه، فسألته عن الكتاب فأخبرني بوجوده وأحضر لي نسخة جديدة منه بتحقيق محمد محي الدين عبدالحميد، وهي هذه النسخة بعينها مكتوبٌ عليها تاريخ الشراء ومكانه وكنتُ أيام عَوَزي الشديد أكتبُ ثَمنَ الكتاب أيضاً حتى إذا فترت عن القراءة تذكرتُ الثمنَ فأنشط للقراءة.

وجمعني ذلك الأسبوع في النماص مجلسٌ مع بعض الأصدقاء فذكرت لهم الكتاب، وقرأنا بعض ما فيه، ولم أعد يوم الجمعة لأبها إلا وقد قرأت الكتاب واستمتعتُ به أيما استمتاع، وكانت تعليقات محمد محي الدين عبدالحميد رائعة جداً، كلما ذكر ابن الأثير بيتاً من الشعر لأبي تمام أو البحتري أو المتنبي أو غيرهم يذكر في الحاشية مطلع القصيدة، ويعلق بتعليقات علمية مختصرة فيها شرح الغريب ونحو ذلك، وكانت طبعة المكتبة العصرية في بيروت عام 1411هـ .

ولم تزدني الأيام إلا محبة لهذا الكتاب، ومعرفة لقدره بين كتب الأدب، وأوصي به كل من يسألني، وقد قرأت بعد ذلك كتباً وبحوثاً عن ابن الأثير وكتابه هذا وبقية كتبه، واشتريت بعد ذلك طبعة بدوي طبانة والحوفي للكتاب، ولم تعجبني تلك الطبعة، لسوء الطباعة، مع أنه ملحق بها كتاب ابن أبي الحديد (الفلك الدائر على المثل السائر) وفيه نقد لابن الأثير في كتابه، ولم أدع بعدها كتاباً حول كتاب ابن الأثير إلا قرأته، مثل (نصرة الثائر) للصفدي، وأبحاث ندوة ابن الأثير التي عقدت في الموصل وغيرها، والكتاب عمدة من عمد كتب الأدب أنصح به كل من يحب الأدب والقراءة والرغبة في تحسين أسلوبه فكتاي النثر والشعر، ونثر المنظوم، ونظم المنثور، وهناك كتاب بهذا العنوان لابن الأثير أيضاً، وهو أديب رائع متمكن، مع بعض الغرور فيه رحمه الله وغفر له.

وكان كل ذلك بسبب ذلك البرنامج الإذاعي الذي سَمعتهُ مِن عدنان صادق الدبسي، وأرجو أن يكون ذلك في ميزان حسناته يوم القيامة، وهو لا يعرفني وأنا لم أره قط وإِنَّما أحببته من خلال صوته، وأسأل الله العظيم أن يغفر له ولكل من تعلمنا منه علماً، وأن يجمعنا بهم في جنات النعيم، والحمد لله على فضله وإحسانه وتوفيقه. 

المصدر: ملتقى أهل التفسير