ولكم في السابقين سوابق
مدحت القصراوي
فعند ضعف الإسلام واهتزاز المجتمع وغياب النظام الذي يمثله بل وجود نظام يعاديه ويسعى لاجتثاثه وتجفيف منابعه -وأنى لهم- عندئذ سيجود الزمان بالكثير ممن اشرأب نفاقه وأظهره.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
إن البشر هم البشر، والإنسان هو الإنسان، مهما تبدلت السنون واختلفت البيئات. لقد خاطب الله تعالى بكتابه الكريم الإنسان من حيث هو إنسان، لم يكن الخطاب الرباني لجيل دون جيل أو لجنس دون غيره، بل خاطب تعالى الإنسان في كل بيئة وفي كل زمان.
وانقسم الإنسان كإنسان أمام الخطاب الرباني إلى أصناف، وتفاعلات، مكررة ونموذجية إذا عرفتها وجدتها تنتظم تلك النماذج البشرية التي تعايشها. وعندما تعرفها لا تفاجأ بتفاعلات الخلق ما بين المهتدي الذي يقبل الهدى ويفيض من الدمع مما عرف من الحق، ولو كان من جنسية بعيدة ولغة مختلفة وشكل أعجمي، وجاسي القلب رافض للهدى تؤزّه الشياطين متطوع بالعداء.
هناك المؤمن الذي صدّق بخبر الله وقبِل حكمه؛ يذرف الدمع عندما يسمع آيات الله، يعرفها فيؤمن بها فيخبت لها قلبُه، لها ملامحها وآثارها في حياته فيرتب حياته على وفقها، بل ويقدم حياته من أجلها. وهناك صنفان متشابهان، أخوان، مجموعان عند الله في دار واحدة، وهما الكافر والمنافق {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].
الكافر إما يكذب بخبر الله أو يشك فيه، وإما يصدقه لكنه يكرهه ويرفضه فيرفض التعظيم والطاعة، لكنه يعلن هذا في موقف صريح. المنافق هو نفس موقف الكافر كذلك؛ إما يشك أو يكذب بخبر الله، وإما مع تصديقه لها وتصوره لمعانيها يكره ما أنزل الله ويرده لتعارضه مع أهوائه وشهواته أو خوفًا من تكلفتها أو لعدم تصوره لما أخبر الله تعالى تصورًا كاملا، أو لأن المعسكر الذي يحملها ضعيف القوة مهدد الجناح، أو لغير ذلك من أسباب انحراف القلوب التي تتعدد مساربها وأسباب انفعالاتها. لكن في النهاية فالمنافق يظهر تصديقه وقبوله لما أنزل الله من خبرٍ وأمرٍ خلافًا لحقيقة ما هو عليه من الشك والتكذيب أو الرفض والرد وانتفاء التعظيم والمحبة والطاعة.
المفروض أن الإسلام منهج شامل يتمثل في نظام يقوم عليه وعلى تطبيقه وتحقيقه، وفي مجتمع هو الذي يقيم هذا النظام ويدعمه وتشيع فيه عقيدته وقيمه، وكلما قوي الإسلام ممثَّلا في مجتمعه الذي يحمله ونظامه الذي يمثله، يُكبَت من يخالفه من كافر ومنافق، بمعنى أن ما عندهم من عقيدة مخالِفة تقتضي أحوالا للقلوب والنفوس تستلزم الكراهة والبغضاء لهذا الدين، والعداء والسعي في إطفاء نوره وهزيمة جنده وضعف حاله والحيلولة دون تأثيره على الخلق؛ لكن قوة والمجتمع الإسلامي والنظام الإسلامي تحول دون إظهار أو تحقيق المنافقين لأغراضهم.
لذا تجد أوامر وأحكام شرعية تراعي التأثير على هؤلاء {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60]، وتجد: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب:60]، {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9]، وغير ذلك من الآيات.
والخطير في الأمر في شأن النفاق خصوصًا أن لهم تأثيرًا مجتمعيًا وخلُقيًا وسياسيًا؛ ففي التأثير السياسي والاجتماعي مثل قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىٰ يَنفَضُّوا} [المنافقون:7]، {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8].
وفي التأثير الخلُقي والقيمي: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ۚ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، والآية كلها تتحدث عن اختلال القيم.
كلما ضعف المجتمع المسلم بعقيدته وقيمه، ناهيك عن اختلاله، وكلما ضعفت سلطة النظام الإسلامي، ناهيك عن افتقادها؛ عندئذ يحدث ما قالته السيدة عائشة رضي الله عنها عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالت في ضمن جمل كثيرة تصف حال الناس إلى أن جمعهم الله بأبي بكر، قالت: "واشرأب النفاق"، يعني أطل برأسه.
فعند ضعف الإسلام واهتزاز المجتمع وغياب النظام الذي يمثله بل وجود نظام يعاديه ويسعى لاجتثاثه وتجفيف منابعه -وأنى لهم- عندئذ سيجود الزمان بالكثير ممن اشرأب نفاقه وأظهره.
ستجد هذا في سياسي حاقد أو إعلامي كاره أو صحفي مأجور أو داهية متآمر. هؤلاء يجدون من ليسوا منافقين بل قد يجدون منحرفين انحرافًا شديدًا بالانهماك في الفسق، يكادون يقتربون منهم، وآخرين مستغفَلين يدلهم هؤلاء على الشر في صورة خادعة، فيقودون الملايين من الغثاء الذين ليس له ركن واضح ولا مفهوم حاسم ولا قاعدة صلبة، فيجردونهم من عقولهم ويستنزفون إنسانيتهم ويحشرونهم لمواجهة الحق وهم متوهمون!
التأثير الأقوى هنا هو لهؤلاء المتترسين للنفاق الظاهر والحاملين لرايته، لأنهم واضحو الأهداف يقودهم الحقد وتسندهم قوى عالمية وإقليمية. هنا يجب أن ترجع إلى منزّل هذا الدين وإلى كتابه وكيف وصف الله حال تلقيهم للهداية وكيف يسلك التكذيب في قلوبهم وكيف هي انفعالاتهم.
أما في بيان كيفية استقبال قلوبهم للهدى، فقد أوضح خالق هذا الإنسان أنه يسلك في قلبه التكذيب عقوبة له على سوء تلقيه للهدى لما جاءه: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ . لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ} ثم هددهم {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الحجر:11- 13] يعني لما رفضوا الهدى كما رفضه هؤلاء.
كأنك ترى هذه القلوب رأي العيان وهي تكافح الهدى وترفضه فلا يسلك في قلوبهم إلا مكذبًا به.
وأما انفعالاتهم فهي متأثرة بانزعاج مستمر نراه عيانًا؛ هذا الانزعاج مصدره أن ثمة من هو قائم على قلوبهم يزعجها إزعاجا ويدفعها للعداء والمواجهة متطوعة راضية بالدور القذر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]، وفي التفسير: تزعجهم، إنهم إذا لا يهدؤون! وقلوبهم غير مرتاحة ومفتقدة للطمأنينة، مستنفَرة طول الوقت لموجة جديدة وإيذاءٍ وإيلامٍ لأي طاهر أوشريف.
إن الله تعالى يطمئن عباده بعدها مباشرة بأنهم تحت رقابته وفي قبضته: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] وفسرها الصحابة والتابعون أنهم تُعد لهم الأيام والأنفاس!
إذًا لا تنزعج إذا رأيت صحفيًا أو سياسيًا أو مسؤولًا، يتطوع كل يوم بمصيبة ويتوعد كل لحظة بجريمة ويملأ فراغه بمؤامرة جديدة، واعلم حينئذ أنهم ملتصقون بالشياطين من الجن ومن الإنس على السواء، ولهذا فهم مدفوعون إلى حيث يريد الشياطين أيا كان مستقرهم، عند أبيهم المخطِط أو في إسرائيل نفسها أو مراكز الماسونية أو مراكز التآمر الغربية أو غيرها.
لا تعجب من قسوة قلوبهم وشدة رفضهم للخير وللتنمية إن جاءت عن طريق الإسلاميين ويفضلون التبعية والتقسيم والتفتيت والتخلف مع البهرجة، لا تعجب فهكذا سُلك الإجرام في قلوبهم؛ فإنها قلوب تالفة لا تستحق كنز الهداية.
وفي الطريق يضيع ملايين الغثاء بين من وقع في النفاق وشربه قلبه، وبين من هو كأن قد، وبين من عاش مستغفلا ومات مستغفلا! وبين من كتب الله له الأوبة ولو بعد حين.
أما التعامل مع قلوب النفاق والرادين لدين الله فهو عبودية أخرى تتطلب البصيرة بهذا الدين وحقيقته، وبالأوضاع الرافضة له أو المنحرفة عنه وطبيعتها، ومن ثم الوسائل المكافئة والتي يجب أن تتضمن أمرين:
(الهداية) وبيان الحق لأنه ما زالت هناك قلوب تتلقف الهدى وتمسك به لو أزيلت عنها الغشاوة.
و(القوة) التي تمنع الشر أن يُضل الخلق أو يفتنهم أو يشوه الحق، والقوة التي تكسر قلوبًا لا تهتدي حتى تنكسر. إن السياسة في هذا الدين لا تنفصل عن الهداية فهي دافعها ومبتغاها، والله الموفِق.