صيود الأوراد (2): أركان كل عبادة

أبو محمد بن عبد الله

تقوم عبادة أهل السنة على ثلاثة أركان؛ فقامت واستقامت، في حين تقوم عبادات غيرهم مِن الفِرَق على بعض هذه الأركان فما قامت ولا استقامت، بل مالت وضلَّت.. هذه الأركان هي: الخوف والمحبة والرجاء.
وسورة الفاتحة تقرر هذه الأركان، لا من الجانب النظري فحسب، بل أيضًا تغرسها في قلبك غرسًا بالتعبير الربَّاني المحفوف بالموحيات، حتى إنه يعطيك مع المعلومة التزكية والتربية... فدونك تأملها

  • التصنيفات: القرآن وعلومه - قضايا إسلامية -

من الفاتحة (2): أركان العبادة

الفائدة الثالثة: تقوم عبادة أهل السنة على ثلاثة أركان؛ فقامت واستقامت، في حين تقوم عبادات غيرهم مِن الفِرَق على بعض هذه الأركان فما قامت ولا استقامت، بل مالت وضلَّت.. هذه الأركان هي: الخوف والمحبة والرجاء.

فأما أهل الإرجاء فقد اعتمدوا جانب الرجاء والطمع في رحمة الله حتى تركوا الإسلام كالثوب البالي حيث اكتفَوْا بالقول للنجاة من النار والفوز بالجنة! أما الخوارج الحرورية فاعتمدوا جانب الترهيب والوعيد، وركبوا مطية الخوف وحدها، حتى كفَّروا بالمعصية غير المكفِّرة.. أما الزنادقة فاعتمدوا جانب المحبة وحدها حتى وصلوا به إلى الحلول والاتحاد، حتى قال بعضهم: إننا لا نعبد الله طمعًا في جنته ولا خوفًا مِن ناره، ولكن محبة فيه.. أما أهل السنة فاعتمدوا هذه الأصول كلَّها: الخوف والمحبة والرجاء؛ فإذا ضعُف وازعك من الخوف هزَّتك المحبة، وإذا خفتت المحبة دفعكَ الرجاءُ، وإن مِلْت على جانبٍ منها ردَّك الآخر إلى الوسط.. وقد بيَّن ابن تيمية رحمه الله هذا واستدل عليه وذكر فيه قول السلف:"من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجيء، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد"[مجموع الفتاوى: 10/ 81 وغيره]. فمن الأوَّل تبني عبادتك على أركان صحيحة؛ فأين أركان العبادة هذه في سورة الفاتحة؟

سورة الفاتحة تقرر هذه الأركان، لا من الجانب النظري فحسب، بل أيضًا تغرسها في قلبك غرسًا بالتعبير الربَّاني المحفوف بالموحيات، حتى إنه يعطيك مع المعلومة التزكية والتربية... فدونك تأملها:

{الحمد لله رب العالمين}: هذه الآية تبني ركن المحبة، فتثير محبة الله تعالى وتدعو إليها، لأن ربوبية الله تعالى للعالمين تشمل عطاءاته لهم وإنعامه عليهم، فهو الذي يَرُبُّ العالمين ويُربِّيهم بنعمه، وهذا يقتضي أن نحب الله تعالى لما يغذونا به من النِّعم التي لا تُحصى ولا تُعَدْ، فضلا عن أن تُرَدْ. لأن العطاء المجَّاني يولِّد المحبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَهَادُوا تَحَابُّوا»(مالك، الموطأ، رقم:[3368])، فما بالك إذا كان المُعطي هو الله، فإن المحبة تزيد بقدر الشعور بالنعمة.

{الرحمن الرحيم}: تفتح باب الطمع والرجاء، فقد اتصف بالرحمة الكاملة الشاملة، الذاتية والفعلية، في الدنيا والآخرة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد»(مسلم، صحيح مسلم، رقم:[ 2755]) وقد قال الله تعالى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ[الأعراف: 156]، وعليه نردد:  {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]، إلا أنَّ رحمة الله لا تُنال بالأماني، ورجاؤها يكون بالإيمان والمجاهدة:  {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218].

{مالك يوم الدين}، يوم الحساب، يوم الوقوف بين يدي الله سبحانه، يوم تجد كل نفس ما عملت محضرًا، يوم يرى المرء مقدار الذرَّة من عمله.. يوم تشيب لهوله الولدان، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وتذهل المرضعة عمَّا أرضعت، يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية! ويفر كل حبيبٍ من حبيبه، ويقول كل نبيّ: نفسي نفسي!.. إلا نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فيقول: أنا لها.. كان تحذير كل نبي لقومه من هذا اليوم: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[سونس:15] {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}[هود:3] {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}[هود:26]ألا يستدعي ذلك خوفًا قاتلا لو تفرَّد؟! حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث السابق: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة، ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة، ما قنط من جنته أحد»(مسلم، صحيح مسلم، رقم:[ 2755]).

ولذلك جمع الله تعالى بين هذه الأركان في وصف المؤمنين وأحوالهم التعبدية: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[الأعراف:56]، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[السجدة:16]، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء:90]، {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}[الإسراء:57] وفي هذه الأخيرة، أشار إلى المحبة بطلب القرب من المحبوب اتِّخاذ الوسيلة إليه، وذكر الخوف والرجاء.

ومادامت هذه الأركان بهذه المنزلة من حركات الإنسان وسكناته، فما عليه إلا أن يسعى في غرسها في نفسه وفيمَن حوله، ويُنمِّيها، ويتعلم كيف يحب الله تعالى لآلائه، وكيف يرجوه لواسع رحمته، ويخافه لشديد عقابه، فاللهم ارزقنا محبتك وحسن رجائك والخوف من عقابك..

ويتبع إن شاء الله

سبقها:
كيف تعرف ربَّك

 

ويُتبع إن شاء الله تعالى بـ:
3 - سبق الرحمة لا ينفي الغضب

4- صيدٌ على الصراط المستقيم

5-  صيدُ أنعمت عليهم

6- قصص الأمم الضالة