دماء غزة تغذي شريان الأمة

محمد قطب إبراهيم

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

أعاد التاريخ نفسه يوم السبت ٢٧-١٢-٢٠٠٨ عندما ارتكب جيش الإرهاب الصهيوني مجزرة جديدة تضاف لسجل اليهود القديم المليئ بإرهاب الآمنين وقتل الأبرياء ونشر الخراب والدمار. وهذا يذكرنا بمجازر العدو الصهيوني المشابهة ابتداء بدير ياسين وقبية وصبرة وشاتيلا وقانا وجنين والآن غزة المحاصرة التي راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة شهيد وأكثر من ألف جريح والأرقام في ازدياد، والعدو يقول أن هذه البداية فقط!!

ولعل هذه المجازر من استراتيجية اليهود المطردة لفرض سيطرتهم وتوضيح الفرق في موازين القوى، وتذكير الأمة العربية والإسلامية أن إسرائيل تفعل ما تشاء وقتما تشاء تحت مرآىً ومسمع العالم دون أي رادع من قانون أو قوة. غير أن توقيت هذا الذبح الجماعي يبدو مرتبطا رباطا وثيقا بالانتخابات الإسرائيلية القادمة في رسالة واضحة أن الفوز في الانتخابات مرهون بعدد الجثث الفلسطينية التي يمشي فوقها المرشح للرئاسة.

وكما جرت العادة، تنهال الإدانات الخجولة التي لا تسمن ولا تغني من جوع على هذا الإجرام. لكن المطلوب الآن فزعة واسعة على مستوى الأمة جمعاء مطالبة بدم هؤلاء الأبرياء وفتح المعابر لإسعاف المصابين والمرضى وتوفير العلاج اللازم لهم. المطلوب هو ضغط شعبي وبرلماني واسع على الحكومات لقطع العلاقات مع هذا الكيان المجرم وإلغاء الاتفاقيات السابقة معه التي يخرقها ليل نهار، وإلإعداد والإستعداد الذي أمرنا الله تعالى به. والذي يتوج هذه التحركات كلها هو رجعة صادقة للإسلام الذي لا عز لنا إلا به ومن خلال عقيدته و تعاليمه.

الهدف المعلن لهذا القتل الهمجي هو استهداف حركة حماس وبنيتها التحتية، فقد طمأننا أولمرت ومن معه أنهم لا يقصدون المدنيين ولا غزة بأكملها وإنما يضربون بدقة متناهية مواقع حماس وأسلحتها فقط!!، فهل هؤلاء الأطفال الرضع الممزقين أشلاءً كانوا كذلك ممن ساعدوا بإطلاق الصواريخ؟!، وهل هذه الأعداد المهولة كلها من أتباع حماس ومناصريهم؟!...

ثم ردا على استثارة اليهود شفقتنا عليهم وما يعانيه سكان الجنوب من وقوع مئات الصواريخ على قراهم بعد انتهاء التهدئة، السؤال الذي يطرح نفسه هو: "كم يهودي قتل أو أصيب جراء إطلاق هذه الصواريخ قبل حدوث المجزرة؟"، والجواب هو: "صفر. لم يقتل أو يصب أحد!!". لكن التحذير الأمريكي شديد اللهجة والإدانات العالمية توجه كعادتها لحماس وصواريخ القسام وليس لشلالات الدم الناتجة عن ذبح وجرح قرابة ألف وخمسمئة فلسطيني محاصر. وهذا هو الصلف اليهودي الذي يساوي بين مجرد خوف بعض اليهود من سكان المغتصبات الجنوبية وسفك دماء المئات من الأبرياء المشردين.

الموقف الأمريكي من هذا كله ليس مستغربا فقد عودتنا أمريكا أنه كلما خرج بيان استنكار أو قرار إدانة لإسرائيل من قبل مجلس الأمن وقفت هي بالمرصاد بسلاح الفيتو في كل مرة. لكن الملاحظ هذه المرة هو وقاحة وزيرة الخارجية رايس الصريحة التي لم تعبر حتى بكلمة واحدة ولو كذبا عن أسف الإدارة الأمريكية لرؤية ذلك العدد الخيالي من الضحايا وإنما على العكس جاء التحذير منهم مدويا ضد حماس وإطلاق الصواريخ. لم تأبه بثلاثمئة نفس فلسطينية وألف جريح وكأنهم نفس واحدة، مقتفية أثر سابقتها في عهد كلنتون مادلين أولبرايت حنيما سئلت عام ١٩٩٦ عن الحصار ضد العراق وموت أكثر من نصف مليون طفل ظلما "هل هذا الثمن مناسب؟" فردت: "أعتقد أن هذا قرار صعب جدا، أما الثمن، نعم نعتقد أن الثمن مناسب"!!... نعم لقد فضحهم لنا الحق سبحانه وتعالى في قوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} [سورة التوبة: 10].

ترى إلى متى ونحن نضع كل آمالنا على مجلس الأمن واللجنة الرباعية والمنظمات الدولية هنا وهناك الذين التزموا الصمت حيال هذه الإبادة المنظمة المتواصلة في فلسطين الحبيبة؟!

نعم مقارنة بما يجب أن نسمعه ونراه من تحركات في ظل ما يجري، الإنكار والشجب الأجوف هو بمثابة صمت ورضا بذلك الإرهاب الأرعن. أما لو قتلت صواريخ القسام عشرة جنود محاربين يهود في سديروت أو عسقلان، لقامت الدنيا ولم تقعد فكيف وقد قتلت الغارات الصهيونية ما يربو على ثلاثمائة إنسان أعزل محاصر مجوع، وأصابت أكثر من ألف وأغلبهم أطفال ونساء وشيوخ وغالبا لا يمتون إلى المقاومة والجهاد بصلة.

الهدف الأبرز لليهود هو ضرب المقاومة المسلحة وروح الجهاد في الأمة. فالمطلوب إما استسلام تام وتطبيع كامل مع العدو مكللا بسلطة فلسطينية تقبل الإملاءات الإسرائيلية وتسهر عليها وتسكت عن جرائمها، وإما تهدئة تلو الأخرى تمكن الصهاينة من الاستمرار في بناء المستوطنات والجدار الفاصل والحفريات السرية استعدادا لهدم الأقصى وبناء الهيكل الثالث المزعوم.

في عصرنا هذا الذي رق فيه الدين وذبل، وعزف عنه المسلمون وغيرهم وغاب عن أذهان الكثيرين في قرارات الأمة المصيرية وأصبحت التصريحات والخطاب سياسيا مكررا معدا مسبقا، اضطررنا كثيرا إلى استعمال ذلك الخطاب السياسي البحت لمداراة تلك الأصوات التي تدعي الحكمة وتدعونا للكلام بالمنطق والموضوعية والابتعاد عن الدين والعواطف. لكن المتأمل الفاحص يجد أن ذاك الخطاب محدود جدا وساذج وفي الغالب انهزامي واستسلامي ويغفل الجوانب العقدية المهمة التي تحكم هذا الصراع بيننا وبين اليهود. فقد أصبح من نافلة القول أن كل تحركات الصهاينة السياسية تنبع من اعتقاداتهم الدينية ورغبتهم في تحقيق وعود التوراة المحرفة لهم بالسيطرة على كل فلسطين كمنحة إلهية لهم.

ولئن انهال العرب خاصة العلمانيين منهم وراء سراب فصل الدين عن الدولة والعقيدة عن السياسة في محاولة بائسة لمحاكاة النظم الغربية الحديثة فقد أعلن اليهود صراحة أن الدين والدولة شيء واحد عندهم وأنهم في خدمة بعضهم البعض. ففي الندوة التي عقدت في إسرائيل في ١٩٨١ قال د. مصطفى خليل رئيس وزراء مصر الأسبق: "أود أن أطمئنكم أننا في مصر نفرق بين الدين والقومية، ولا نقبل أبدا أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة إلى معتقداتنا الدينية"، فوقف أحد الأساتذة الإسرائيليين المتخصصين قائلا: " إنكم أيها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكني أحب أن أقول لكم: إننا في إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط ، بل إننا نؤكد أن اليهودية هي دين، وشعب، ووطن"!!!، ثم رد أستاذ آخر بمثل ما قال الأول!!.

وإن كان تجنب هذه الجوانب عمدا أو من غير قصد فالنتيجة واحدة وهي أن اختزال الكلام في الجانب السياسي الآني يعمينا عن أهدافهم الحقيقية وتاريخ قتلهم وظلمهم لنا ومخططاتهم المستقبلية، وهذا بالضبط ما يسعون لتحقيقه.

فهم لا يفتؤون يطمئنوننا أن جيش الدفاع الإسرائيلي، كما يسمونه زورا وبهتانا، يتعامل بأعلى درجات أخلاقيات الحرب، وكأننا ولدنا من قريب أو نسينا مجازرهم السابقة التي لا يزال الجرح منها يثغب دما في قلوبنا. وحتى لا ننجر كعادتنا وراء السراب الإعلامي والخطاب الصهيوني المتكرر يجب ألا ننسى أن حقدهم الدفين نابع من تعاليمهم العنصرية المحرضة على كراهية كل ما ليس يهودي.

هجومهم الوحشي على غزة هو في واقع الحال هجوم على كل مسلم موحد ودينه وقرآنه وجهاده واستخفاف بالدم العربي المسلم، وإلا فكيف يستحلون هذا القتل الجماعي الإرهابي غير آبهين لا بالأرواح المهدرة ولا بالمجتمع الدولي ولا قرارات الشرعية الدولية؟!.

كل هذا ليس إلا مصداق ما قاله من لا ينطق عن الهوى، نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في طرف من حديثه: «..ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن...» [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وهذا عندما خلدنا إلى الدنيا وكرهنا الجهاد وتركنا منهج ربنا العليم الخبير. وربما ازدادوا جرأة في إرهابهم الأخير هذا بعد أن أخذت وزيرة الخارجية ليفني الموافقة الضمنية بعد زيارتها لمصر.

أعداء الدين كثيرا ما يلجؤون إلى إخفاء حقدهم وكراهيتهم لنا بتطييب الكلام كما وصفهم من هو عليم بذات الصدور: {...يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [سورة التوبة: 8].

لكن بعض أعداء الإنسانية تجاوزوا بوقاحتهم حتى ذلك فأعلنوها بملء أفواههم. فهذا رافائيل إيتان قائد الأركان السابق في إسرائيل الذي قال قديما: "بعد أن نستقر في هذه الأرض (فلسطين)، كل ما يستطيع العرب فعله هو العدو مثل الصراصير المخدرة في الزجاجة"!!!

طبعا هذا الكلام يترفع عنه من له أدنى ذوق إنساني فضلا عن الذوق الأدبي، لكن الناظر لما يحدث في غزة المحاصرة اليوم والصهاينة وأولياؤهم متفرجون مصفقون يرى كيف طبق هذا الأمر بحذافيره، كمن حبس صراصير في زجاجة ثم رشهم بمبيد الحشرات.

وشمعون بيريز الذي صافحه شيخ الأزهر من قريب قال بصريح العبارة: "إنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهرا سيفه ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد"!!، وهذا طبعا غيض من فيض.

إذًا استهدافهم لحماس هو لعقر المشروع الإسلامي الذي يوقنون بأنه وحده الذي سيقلب موازين القوى ليرد الحق إلى أصحابه. أما غير ذلك من رايات وشعارات وإن كانت مقاومة غير مستسلمة فلا تخيف اليهود ولا يحسبون لها حسابا.

حان الأوان أن نعود لكتاب ربنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لصقل أفكارنا وتصويب آرائنا في طريقة تعاملنا مع اليهود، فمن يقرأ قوله تعالى مخاطبا رسوله (صلى الله عليه وسلم) عن اليهود: {...يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ...} [سورة المائدة: 13]، لا يطمئن لهم أبدا ولا يعول على كلامهم فإن عبارة "ولا تزال" تفيد الاستمرار، وبهذا يوقن المسلم أنهم أهل خيانة وغدر وكذب أبد الآبدين إلا قليلا منهم، مما يمنعه من الركون إليهم والهرع لعقد الإتفاقيات الجوفاء معهم.

ما أشبه اليوم بالبارحة عندما حوصر العراق وجوع اثني عشر عاما حتى خارت قواه قبل أن تدك قوات الغزو ذاك البلد المنهك بالصواريخ والنار لتدمره بالكامل. كأن حصار القطاع الظالم المستمر لعدة أشهر لم يكن كافيا، جاء هذا الإرهاب اليهودي ليقتل ما تبقى من حياة أو رمق في جسم غزة الهزيل.

عذرا أهل غزة فيبدو أن الله عز وجل كتب لكم أن يكون إحياء ضمير الأمة الإسلامية والعالم أجمع على أشلاء أجسادكم الطاهرة ودمائكم الزكية وخراب حياتكم وأنقاض بيوتكم.

صبرا أهل غزة فأنتم من يحمي شرف الأمة ومقدساتها ودماؤكم لن تذهب هدرا بل ستسير في حبل وريد الأمة لتحيي مواتها بإذن الله، إذا عرفنا استغلال هذا الحدث الجلل في تجديد روح الأخوة في الله والجهاد والمقاومة في الأمة.

ترى هل تكون هذه صيحة النفير التي تستيقظ بها الأمة من رقادها لتعود للإسلام عقيدة وشريعة وحكما وسلوكا؟، هل تكون هذه العبرة للمسلمين أن النصر لا يكون إلا من عند الله وأن الولاء واجب للمؤمنين والعداء للكافرين وأن جهاد الكفار والمنافقين وما أكثرهم والغلظة عليهم هو سبيل النجاة الوحيد؟

أم هل تسطر هذه المجزرة مع سابقاتها في كتب التاريخ وذاكرة الأمة لتقرأ عنها الأجيال القادمة وتتأوه وتحوقل كما جرت العادة، منتظرة الحرب الجديدة والذبح القادم ليضاف إلى جانب مجزرة غزة المحاصرة في آخر عام ٢٠٠٨؟!








المصدر: صيد الفوائد