يوميات من مواجهة "الكف" الغزي "للمخرز" الإسرائيلي

ملفات متنوعة

الأوضاع الأمنية السيئة وتزايد صواريخ المقاومة رفعت عدد الإسرائيليين
المتوجهين لطلب الاستشارات النفسية بنسبة 12%، وزيادة حالات الاكتئاب
بنسبة 14%، وارتفاع تناول المهدئات بنسبة 50%

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -


بينما يغلب على التغطية الإعلامية للحرب المعلنة على غزة آثار القصف والدمار والإبادة الإسرائيلية لعائلات كاملة، يتمثل النصف الممتلئ الآخر من كأس المواجهة الدائرة بالقطاع في مشاهد المقاومة الضارية التي تواجه القوات الإسرائيلية الغازية.

وسواء استمرت المواجهة العسكرية الدائرة في غزة أم أعلن وقف لإطلاق النار يجري الإعداد له في العواصم المجاورة، فإن الأيام الأخيرة يجب أن لا تمحى من الذاكرة العربية والفلسطينية، وإليكم أهم سطورها:

سمات المواجهة الميدانية
ما زالت قوى المقاومة -التي تتصدرها كتائب القسام- تقاتل في مواقع لا يستطيع جنود الاحتلال التوغل فيها، فهذه الحقيقة لا تقل أهمية لكونها تتعلق بالموقف والخيارات العسكرية الإسرائيلية، وهي تتجسد في أن المحتل لم يَعُد قادرًا على دخول هذه المناطق لأن من شأن ذلك أن يزجّ بجنوده في دوائر النيران في الناحية القتالية المباشرة، وعلى المدى البعيد يعرض قواته لخسائر وأعباء فادحة طالما حلم بالتخلص منها.

وإزاء هذه الحقيقة يمكن تحديد أساليب التعبير القتالي في المواجهة الدائرة على مشارف غزة، من خلال:

أ‌- صور المواجهة الميدانية في تحولها بالفعل من استخدام السلاح الخفيف المتوفر في القتال، إلى زرع المتفجرات في أماكن تواجد الجنود.

ب‌- اجتراح نوع آخر من شكل "خط المواجهة" أو "خط النيران"، ما أعطى إمكانية لشكل أوسع من الاشتباك المنظم وحرب المجموعات الصغيرة ضد خطوط المحتل، التي باتت محدودة من حيث الحجم والامتداد.

"
رجال المقاومة تمكنوا من ابتكار أساليب هجومية جديدة وخطيرة ضد أهداف إسرائيلية منتخبة، مثل استهداف الدبابات المحصنة من طراز ميركافا، وهي محاولات تدل على وجود نمط جديد ينتهجه المقاومون
"
ج- هناك ميزة أخرى خدمت تطور المقاومة قتاليًّا خلال الأيام القليلة الماضية، يوفرها قطاع محدود من بعض المناطق الحرجية والكروم الزراعية، ففي هذه المناطق تمكنت المقاومة من استنزاف قدرات الجيش الإسرائيلي، وشكلت مناطق صالحة لتحرك المجموعات المقاتلة المتسلِّلة أو المنظمة، رغم سياسة "الأرض المحروقة" التي اتبعتها في المرحلة الجوية التي سبقت العدوان البري.

د- في الوقت الذي تنافست فيه قوى المقاومة على تكبيد الاحتلال أكبر الخسائر على مختلف الأصعدة، فإننا نلاحظ أن كتائب عز الدين القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- سجلت أكبر عدد من هذه العمليات، وهذا لا يلغي بحال من الأحوال مشاركة باقي الأجنحة العسكرية، كسرايا القدس، وألوية الناصر صلاح الدين، وأبو علي مصطفى، والمقاومة الوطنية، وشهداء الأقصى.

هـ تمكن رجال المقاومة من ابتكار أساليب هجومية جديدة وخطيرة ضد أهداف إسرائيلية منتخبة، مثل استهداف الدبابات المحصنة من طراز ميركافا وناقلات الجند، بواسطة تفجير العبوات الناسفة التي تحتوي على كمية كبيرة من المواد المتفجرة، وهي محاولات تدل على وجود نمط جديد ينتهجه المقاومون، مما اعتبره الإسرائيليون تصعيدًا وتطورًا خطيرين دفعا وزير الأمن الداخلي السابق عوزي لنداو للقول "إن الحرب التي تديرها إسرائيل وقوات الأمن ضد الحركات المسلحة هي حرب أدمغة وابتكارات وأساليب جديدة".

إبداع القناصة
جزء مما يرد من ساحة القتال على تخوم غزة، يظهر أن المقاومة أخذت أبعادا متقدمة في استخدام أساليب جديدة ومتطورة في استهداف الجنود الغزاة، وساعد في حدوثها امتلاك قوى المقاومة للمزيد من العتاد والتسليح.

وقد تنوعت عمليات إطلاق النار والكمائن المسلحة لتأخذ شكل إطلاق النار على دورية حيناً، وعلى موقع أو برج عسكري حيناً آخر، وعلى سيارة عسكرية مصفحة حيناً ثالثاً، أو أي هدف إسرائيلي يتاح لفصائل المقاومة. وقياساً إلى مستوى هذه العمليات وتخطيطها وطبيعة الهدف الخاص بها تكون نتائجها، فالتخطيط الجيد يقود إلى تنفيذ جيد وبالتالي إلى نتائج جيدة في معظم الأحيان.

والتقدير الذي يلقى قبول الجميع أن هذا اللون من العمل العسكري المقاوم لا غنى عنه للمقاومة رغم بساطته وقلة التعقيدات الكامنة فيه، فهو يكرس شكلاً أساسياً من أشكال العمل المقاوم التقليدية، في ذات الوقت الذي يحقق فيه مستوى واسعا من الانفتاح الشعبي على الانخراط في المقاومة عبر تبني هذا الأسلوب الذي يقترب من إمكانات وقدرات الجماهير.

وأشارت بعض التقارير التي تصل من ميدان المعارك إلى انتهاج المقاومين لتكتيك جديد يقوم على اعتبار "البندقية أفضل من القنبلة"، وهو ما يراه الخبراء خطوة قد تؤدي إلى تسهيل العمليات ضد قوات الاحتلال.

وقال محلل الشؤون العربية في التلفزيون الإسرائيلي إيهود يعاري إن "الهجمات بإطلاق النار اتجاه جديد قد يحل محل القنابل.. نحن نتحدث هنا عن هجمات "انتحارية" بالبنادق تتم بنفس روح الهجمات "الانتحارية" بالقنابل، الفارق الوحيد هو الأسلوب.

وقال وزير الأمن والرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي (الشاباك) جدعون عزرا إن التحول الحاصل مؤشر على أن حركة حماس تأخذ في الاعتبار الأحداث العالمية، المسلحون بالبنادق يعملون كقنابل بشرية، لكنهم على الأقل لا يتركون صور انفجارات خلفهم.

"
خوفا من قنص المقاومين، صدرت الأوامر للجنود الإسرائيليين بالبقاء أكبر فترة ممكنة في دباباتهم، ما حوّل حياتهم فيها إلى جحيم لا يطاق، ويجعلهم يعيشون حياة ملؤها الملل والضجر والمشاحنات والمشاجرات
"
وهذا ما يؤكده الصحفي تسفي غيلات بقوله إن ما يقلق إسرائيل من هذه الخلايا المتخصصة بالكمائن والقنص هو نوعية الأهداف التي يختارونها، فخبرتها وقدرتها تشير إلى قدرة عسكرية تستحق الثناء.. كل العمليات كانت بحاجة إلى رصد، إعداد، ومنطقة داعمة تمكن "السمك من الغوص في مياهه".. هكذا تفعل حركة حماس الآن، مما يمنحها الاحترام والتقدير في الشارع الفلسطيني.

مع العلم بأن هذا النوع من عمليات إطلاق النار واستهداف الجنود والمستوطنين يعني استنزاف الآلة الحربية الإسرائيلية، وبالتالي الهجوم على ما يعرف بكبرياء الجيش الإسرائيلي، وعلى مستوى الصراع الإعلامي الدولي، كما صرح بذلك رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الأسبق شلومو غازيت.

وخوفا من قنص المقاومين فقد صدرت الأوامر للجنود بالبقاء أكبر فترة ممكنة في دباباتهم، ما حوّل حياة الجنود فيها إلى جحيم لا يطاق، ويجعلهم يعيشون حياة ملؤها الملل والضجر، حتى إن علاقتهم ببعضم البعض داخل الدبابة امتازت بالمشاحنات والمشاجرات.

فخلال فترة المناوبة لمجموعة الجنود البالغ عددهم خمسة جنود داخل الدبابة، لا يستطيعون الخروج من الدبابة لقضاء حاجتهم خوفا من تعرضهم لقناص فلسطيني ينتظر خروجهم، وقد بثت كتائب القسام خلال الأيام القليلة الماضية مشاهد مصورة لقنص جنود الاحتلال، لاسيما أن وجودهم داخل الدبابة واحتكاكهم طوال الوقت مع بعضهم البعض يسبب مضايقات لهم، حتى إن نفسياتهم أصبحت منهارة، والرائحة الكريهة تنبعث منهم بسبب حالة الطوارئ في صفوف الجيش.

العبوات الناسفة
تدرك قوى المقاومة أنه لا غنى لها عن هذه العبوات الناسفة في سياق أي مقاومة فاعلة تستهدف تحقيق أثر واضح في صفوف الاحتلال، فآثارها ومفاعيلها القوية تجعل منها لازمة أساسية من لوازم المقاومة لا تستطيع تجاوزها بأي حال من الأحوال.

وقد برعت المقاومة خلال الأيام الأولى من بدء المواجهة الساخنة على حدود غزة في استخدام العبوات الناسفة في تنفيذ عملياتها، فأغلب المواجهات العسكرية تتضمن استخداماً لأسلوب العبوات الناسفة بشكل منفرد، أو تأخذ أجزاء ومركبات العملية، مما أدت إلى إلحاق أفدح الخسائر في صفوف المحتلين.

فما بين عبوة ناسفة استخدمت في سياق اشتباك مسلح مع قوات الاحتلال، أو عبوة موجهة تم تفجيرها في موكب عسكري، أو عبوة أرضية أو موجهة استهدفت دبابة أو آلية عسكرية، تنوعت أشكال استخدام العبوات الناسفة التي أبدعت عقول المقاومين في تصنيعها وإعدادها، حتى غدت كابوساً خطيراً يؤرق المحتلين.

"
يوسي سريد:
الردع الذي حققه الفلسطينيون مع بنادقهم الخردة فاق ألف مرة الردع الذي حققه الجيش الإسرائيلي في مخيمات اللاجئين مع كل دباباته ومروحياته، فضلا عن العبوات الناسفة التي بدأ يزرعها المسلحون في أماكن أكثر دقة وحساسية
"

وقد أدخلت قوى المقاومة عمليات تطويرية على تصنيع العبوات شديدة الانفجار، واستخدام مواد جديدة في تركيبها، بالإضافة إلى ابتكار وتصنيع أنواع جديدة، مكنها من تدمير الآليات والجيبات المحصنة بما فيها عدد من دبابات الميركافا بحيث استطاعت تدمير هذه الأسطورة، وإسقاط حصن آخر من حصون الجيش الإسرائيلي التي يعتقد بأنها تحميه من ضربات المقاومين، كما تلا ذلك تدمير عدة آليات خلال بعض الاجتياحات.

ورغم القوة الدفاعية الكبيرة لهذا النوع من الدبابات، فقد تمكن المقاومون من مهاجمتها وتحطيمها عبر تفجير عبوات لا تقل زنتها عن مائة كلغ، ما دفع الجنرال يسرائيل تال الملقب بأبي الميركافا للقول إن مهمة هذا النوع من الدبابات تكمن في حماية جنودها، ولكن مقتل الجنود في غزة أثبت فشل مهمتها الأساسية، ما جعل الرعب والخوف يدب في قلوب الجنود الذين باتوا يدركون أن الميركافا -حصنهم المنيع- لن تحميهم من هجمات المقاومة.

كما دفع هذا التطور إلى أن يعلن عضو الكنيست السابق يوسي سريد أن الردع الذي حققه الفلسطينيون مع بنادقهم "الخردة" فاق ألف مرة الردع الذي حققه الجيش الإسرائيلي في مخيمات اللاجئين مع كل دباباته ومروحياته، فضلا عن العبوات الناسفة التي بدأ يزرعها المسلحون في أماكن أكثر دقة وحساسية.

الآثار الكارثية.. إسرائيليا
بعد طول تردد، غامر "الجيش الذي لا يقهر" مغامرة مكلفة حين قرر الانطلاق نحو العملية البرية ضد المقاومة في غزة، وبعد مرور أيام معدودة على بداية المواجهات المباشرة وجها لوجه، تطورت المقاومة من مرحلة إلى أخرى بصورة دلت على عقلية محترفة أشرفت عليها قيادة سياسية حكيمة تمتلك إرادة لا تلين، لأنها تعتقد بأن الصراع مع المحتل الإسرائيلي صراع إرادات في مستواه الأول.

ولم يكن خفيا أن الإسرائيليين من أهالي الجنود الذين أرسلهم الثلاثي المغامر "أولمرت-ليفني-باراك" إلى حتفهم في شوارع غزة، يعيشون أوضاعا صعبة وقاسية.

ومن أهم ما أسفرت عنه المواجهات الضارية على المجتمع الإسرائيلي، ظاهرة انتشار الخوف والبلبلة. وبإمكان المتابع لسير الحياة في المجتمع الإسرائيلي أن يلحظ حجم القلق والاضطراب الذي يعم الإسرائيليين عموما، فإلى جانب تلك العائلات القلقة على مصير أبنائها الذين بدؤوا يعودون في "التوابيت السوداء"، هناك ما يزيد عن مليون إسرائيلي باتوا تحت مرمى صواريخ المقاومة.

إذن، الحديث يدور عن مجتمع بأسره يزداد تعداد أفراده عن خمسة ملايين نسمة، يتأثرون بما يفعله بضعة آلاف من المقاومين ليس أكثر، بحيث أصبح الأمن الاجتماعي والشخصي عملة نادرة في الشارع اليهودي، والاقتصاد بات أضعف كثيراً من ذي قبل في ظل المعطيات الموثقة عن تدهور مجالاته المختلفة، فضلاً عن انحسار منسوب الهجرة اليهودية إلى دولة الكيان والتي بلغت أدنى مستوى لها منذ ولادة الدولة قبل أكثر من ستين عاما.

هذا الأمر دعا عميد كلية الحقوق في جامعة حيفا البروفيسور يوسي أدرعي للتأكيد على أن الخوف مركب أساسي في كيان المجتمع الإسرائيلي، ويتحول من حين لآخر إلى شك وارتياب. وإذا كان الخوف شعورا طبيعيا لدى جميع المجتمعات، فإنه في السياق الإسرائيلي اليهودي يتضخم كورم ينهك الروح ويهد الجسد، والمشكلة الأكثر لدى الإسرائيليين أنهم يخافون وهم مدركون مما يخافون.

ولذلك فقد تسببت أحداث المواجهة الأخيرة ومقاومتها وتزايد إطلاق الصواريخ على مستوطنات ومدن جديدة، في نوع من منع التجول الطوعي-القسري على مئات الآلاف من اليهود في إسرائيل، وبدت الشوارع خالية حتى من حركة السير العادية، وخف تجوال اليهود في المواقع والمعالم السياحية، وامتنعوا على نحو شبه تام من زيارة البلدات الفلسطينية في الضفة الغربية أو المرور بجوارها!

"
الأوضاع الأمنية السيئة وتزايد صواريخ المقاومة رفعت عدد الإسرائيليين المتوجهين لطلب الاستشارات النفسية بنسبة 12%، وزيادة حالات الاكتئاب بنسبة 14%، وارتفاع تناول المهدئات بنسبة 50%
"
ووصف صحفي إسرائيلي الوضع بقوله "لقد عم الخوف في كل مكان، رجال الشرطة بالآلاف يتجولون في الشوارع وعلى مفترقات الطرق، وفي الأسواق والمحال التجارية، وتعيش الدولة في حالة استنفار منذ بداية المواجهة الأخيرة مع حماس، إذ ألغيت إجازات الشرطة، وأغلقت أحيانا كليات الشرطة لحاجات الأمن الداخلي لطلبتها، ففي كل شارع شرطي، وفي كل زاوية تجمع ونقاط تفتيش، وكأن الدولة تحولت إلى ثكنة عسكرية".

وأكدت جمعية "عيران" أن الأوضاع الأمنية السيئة وتزايد صواريخ المقاومة رفعت عدد الإسرائيليين المتوجهين لطلب الاستشارات النفسية بنسبة 12%، وزيادة حالات الاكتئاب بنسبة 14%، وارتفاع تناول المهدئات بنسبة 50%.

وذكرت دراسة أعدها الدكتور روتيال غروس من معهد "بروكدايل" أن ثلث الإسرائيليين يعانون من اضطراب نفسي، كما طرأ ارتفاع كبير على نسبة المتوجهين إلى مراكز الصحة النفسية، في حين وصل عدد المراجعين لهذه المراكز يوميا 25 ألف حالة.

أخيرا.. ولئن كانت تلك المشاهد الغائبة عن كثير من وسائل الإعلام لا تلغي حقيقة أن موازين القوى بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي لا تكاد تذكر، فإنها تعطي مزيدا من اليقين والثقة بأن هذا الجيش الذي سجل انتصارات كاسحة على جيوش عربية نظامية، وبات بقواته العسكرية وإمكانياته اللوجستية وترسانته التسليحية، أقوى بكثير من جيوش دول المنطقة مجتمعة، رافقه "عكسياً" تراجع في الإرادة والعزيمة التي تحرك كل هذه القوات والجنود، الأمر الذي تشهد به حاليا مشارف غزة وبعض أزقتها الحدودية.

وهكذا فإن ملحمة المقاومة المتواصلة في غزة كشفت بصورة لا يختلف عليها عاقلان أن "بنك الأهداف الإسرائيلية" قد تقلص، في حين لا تزال "سلَّة أهداف المقاومة" عديدة ومتصاعدة، ولسان فعلها يقول: لن تمروا.

 

عدنان أبو عامر

المصدر: الجزيرة نت