منزلة الحج في الإسلام

إذا عزمت على السفر إلى الحج أو العمرة فبادر بالتوبة النصوح من جميع الذنوب.

  • التصنيفات: فقه الحج والعمرة - ملفات الحج وعيد الأضحي -

الحمد لله الذي أكمل لهذه الأمة شرائع الإسلام، وفرض على المستطيع منهم حج بيته الحرام، ورتب عليه جزيل الفضل والإنعام، فمن حج البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج كيوم ولدته أمه نقيًا من الذنوب والآثام، وذلك هو الحج المبرور ليس جزاء إلا الفوز بالجنة دار السلام، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله هو الملك القدوس السلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى وصام، وزكى وحج بيت الله الحرام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وعلى التابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام..

 

عباد الله:

الحج تلبية لنداء الله جل وعلا إذ يقول: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27]. قال ابن كثير رحمه الله: "أي: نادِ في الناس داعيًا لهم إلى الحجّ إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه، فذُكِر أنّه قال: يا ربّ، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا يصلهم؟ فقيل: ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل: على الحجر، وقيل: على الصفا، وقيل: على أبي قبيس، وقال: "أيّها النّاس، إنّ ربّكم قد اتخذ بيتًا فحجُّوه، فيقال: إنّ الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كلُّ شيءٍ سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنّه يحجّ إلى يوم القيامة".

ومما يدل على أن شعائر الحجّ من إرث إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما ثبت عن ابن مِرْبَعٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَا إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ يَقُولُ لَكُمْ: "قفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ" [1]. فالحج استجابة لدعاء نبي الله الخليل: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37].

ألا ترون الناس ترُفُّ أعينهم لرؤية ذلك البيت وتَحِنُّ قلوبهم للطواف به، واستلام ركنه وتقبيل الحجر الأسود؟ حتى في صلاتهم يتوجهون إليه؛ لأن صلتهم بربهم موصولة به، وكأنهم يسعون لإطفاء حر الشوق بتوجههم إليه ولو من بعيد، إنهم يحاولون تخفيف أشواقهم وإطفاء لهب نفوسهم فتتجمع القطرات في أعينهم خضوعًا... ثم ما تلبث أن تسيل منها دموعًا، وهم يدركون أن الحج ومناسكه في الأصل مشاعر ومواقف عاشها إبراهيم الخليل نفسه عليه السلام أو زوجه أو ولده أو هم جميعًا، فيعيشون بأحاسيسهم ذكرياته، وامتحان الخليلِ لخليلِه، فيكاد اليأس يغمر قلوبهم كيف يُبتَلى الخليلُ وهو الخليل بهذا البلاء المبين!! ثم تمتلئ أساريرهم بعقبى ذلك الابتلاء، {وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125].

يراه حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج في السماء السابعة مسندًا ظهره إلى البيت المعمور جزاءً وفاقًا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

 

أيها المسلمون:

وتبدأ قصة الذكريات بقوله: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37]. إنك تعجب من هذا الرجل... راسخ الإيمان؛ يترك ابنه الذي رُزِقَه على كبرٍ، وأمَّه بين تلك الجبال المظلمة وفي ذلك الوادي الموحش! فلا ترى إلا قوة تعجز عن حملها جبال ذلك الوادي استسلامًا وتسليمًا، وربما اعتذر بأنه الخليل فما ظنكم بالمرأة، تلك المخلوق الضعيف تسير خلف زوجها بعد أن تركها وولى، وهي لا تدري ما هذا المكان، ولا ترى أحدًا في هذا المكان، تسأله ولا يجيب، تلحق به ولا يلتفت، فتقول بقوة الإيمان وعظمة التسليم: "آلله أمرك بهذا؟ آلله أمرك بهذا؟" فيشير إليها أن نعم، فبماذا تجيب؟ إنها تقول: "إذن لا يضيعنا". لا اله إلا الله... لا اله إلا الله كم في هذه المشاعر من مثير للمشاعر! تالله إنها بيوت الإيمان: زوج وزوجة وابن كلهم مستسلمون، لا اعتراض ولا تردد ولا ضعف، ولكن تنفيذ لكل أمر يأمر به المولى، واستسلام له وانقياد: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ . وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:103-105].

 

أيها المسلمون:

وتمر بنا الذكريات، بهاجر وابنها ولهف الأُم وسعيها بين الصفا والمروة، هدَّها الجَهد، وأضناها الخوفُ على نفسها وعلى فلذة كبدها، فهي تبحث عن الغوث في مكان لا أثر للغوث فيه، بل حرًّا ملتهبًا، ووادٍ أجرد، لكن يأتيها الغوث من حيث لا تحتسب وتتفجر زمزم ماء مباركًا منذ ذلك الحين طعام طعم وشفاء سقم، دليلًا على أن رحمة الله تنزل ولو في الصحراء القاحلة، والأرض المجدبة بل هي في تلك الظروف أقرب وأكثر تنزلًا {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في قصة وضع إبراهيم عليه السلام لزوجته هاجر وابنه إسماعيل عند البيت: "وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا» فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوتًا فَقَالَتْ صَهٍ تُرِيدُ نَفْسَهَا ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا فَقَالَتْ قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنْ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا» قَالَ: "فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا" فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِيه هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ" [2].

كم في تلك الشعائر من قصص وحكايات، ليس فيها قيس ولبنى وليس فيها حب وغرام، ولكن فيها تعلق القلوب بذي الجلال والإكرام، تستسلم له ولحكمته، وتضحي له لا بالكبش الأقرن، بل بفلذة الكبد الذي جاء على كبر، وتعلقت به النفس أيَّما تعلُّق، حتى ملأ شغافَ قلبِها، وسكن سويداءَ فؤادِها فيقال لها اذبحيه بيدك لا بيد غيرك، كيف أتحمل موته بيدي أن أذبحه بنفسي، لكنه الإيمان لا تردد فيه.

ويعود إليك العجب لا من الأب يطأ قلبه ويحمل سكينه ليذبح ثمرة فؤاده فحسب، ولكن من الغلام اليافع يُصبِّر أباه ويدعوه لتنفيذ أمر ربه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
إننا بأداء هذه الفريضة نسير سير الخليل ونتَّبع ملتَه، ونقتفي أثره عند كل مشعر، محققين التوحيد متبرئين من الشرك وأهلِه، وإن لم نعقل بعض مظاهره لأننا قلنا (لبيك) فسلمنا أمرناإ واستسلمنا بعقولنا لأمر ربنا، فلم يكن في صدورنا حرجًا من ما قضى وسلمنا تسليمًا.

 

أيها الناس:

كم غفل عن هذا المفهوم أقوام لم يحققوا معنى الإسلام، ولم يشعروا بقيمة الاستسلام، وقد قالها الصـديق رضي الله عنه مواجهًا الكافرين الحاقدين الذين لا يحتكمون إلا إلى عقولهم "إن كان قال فقد صدق" حتى وإن لم أعقل ذلك ولم أفهمه، فمضت تلك الكلمة مدوية في الآفاق حين هاج المهاجرون والأنصار بعد صلح الحديبية حتى تعجب الفاروق، وسأل سؤاله الإنكاري "ألسنا على الحق" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى» قال: "أليسوا على الباطل"، فقال: «بلى» قال: "فعلام نعطي الدنيَّة في ديننا!؟" فقال له الصديق رضي الله عنه "إلزم غِرزه فإنه رسول الله" فما لبث الفاروق رضي الله عنه أن إلتزمها وقال قولته المشهورة مخاطبًا الحجر الأسود: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". الله أكبر إنه الاستسلام لشرع الله {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر:7]. وهذا هو التسليم الحق والاتباع الحق، ومن اتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فقد اتبع ملة إبراهيم حنيفًا فإن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123].

 

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأما الحج فشأن آخر لا يدركه إلا الحنفاء الذين ضربوا في المحبة بسهم، وشأنه أجلُّ من أن تحيط به العبارة، وهو خاصة هذا الدين الحنيف حتى قيل في قوله تعالى {حُنَفَاءَ لِلَّـهِ غَيْرَ‌ مُشْرِ‌كِينَ} [الحج:31] أي حجاجًا، وجعل الله بيته الحرام قيامًا للناس فهو عمود العالم الذي عليه بناؤه، فالحج هو خاصة الحنيفة، ومعونة الصلاة، وسر قول العبد لا إله إلا الله، فإنه مؤسَّسٌ على التوحيد المحض والمحبة الخالصة، وهو استزارةُ المحبوب لأحبابه ودعوتهم إلى بيته ومحل كرامته، ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارهم لبيك اللهم لبيك إجابة محب لدعوة حبيبه، ولهذا كان للتلبية موقع عند الله، وكلما أكثر العبد منها كان أحب إلى ربه وأحظى فهو لا يملك نفسه أن يقول لبيك لبيك حتى ينقطع نفسه [3].
هذه بعض حكم وغايات الحج وهذا هو المفهوم الحق للحج، نسأل الله أن يعلمنا الحكمة والفقه في الدين، والتوبة إليه في كل حين.. نستغفر الله ونتوب إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فإن من تأمل في عبادة الحج وجد أنها عبادة جامعة لعمل (البدن والمال) فصار جهادًا لا قتال فيه، ومن تأمل مناسك الحج وجدها تبدأ وتعود إلى التسليم والانقياد لله رب العالمين، فمنذ أن ينزع الحاج ملابسه المعتادة فهو يخلع معها التفكير المنطقي كما يقولون، فقد ربته أركان الإسلام على أن الله تعالى حكيم عليم، ووصلَته به وجعلته صابرًا شاكرًا، وجاء الحج بابتلاء العقل وامتحان صدق تسليمه واستسلامه لله، ولهذا فانه أول ما يقول الحاج (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) معلنًا تمام تسليمه لمن آمن به ربًا، ومتبعًا لرسوله صلى الله عليه وسلم القائل: «خذوا عني مناسككم» وفي كل مشعر هو لله موحد وله ذاكر، وإذا أنهى مناسكه ذكر الله أبلغ ما يكون الذكر، مستشعرًا أنه يقتدي بإبراهيم خليل الرحمن الذي كان حنيفًا ولم يكُ من المشركين.

عبد الله:

إذا عزمت على السفر إلى الحج أو العمرة فبادر بالتوبة النصوح من جميع الذنوب، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
قال ابن القيم رحمه الله: "هذه الآية في سورة مدنية، خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبَّب بسببه، وأتى بأداة (لعل) المشعرة بالترجي إيذانًا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح فلا يرجو الفلاح إلا التائبون جعلنا الله منهم". وأوصيك أيضًا قبل سفرك أن ترد المظالم إلى أهلها وتحلل منها، فأنك لا تدري أبقيت لك حياة أم هو سفر لا لقاء بعده إلا بين يدي الله يوم يتقاصُّ الناس، وأذكرك حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» [4]. قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ» أي من الأشياء وهو من عطف العام على الخاص فيدخل فيه المال بأصنافه والجراحات حتى اللطمة ونحوُها، وقوله: «قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ» أي يوم القيامة.

وأوصيك أخي الحاج أن تتحرّى النفقة الحلال لحجتك وعمرتك فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ» فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]. وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ" [5].

وقبل هذا وذاك لا تنس أن تقصد بحجتك وعمرتك وجه الله والدار الآخرة واحذر من أن تقصد بها الدنيا أو الرياء والسمعة: قال الله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا . وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء18-19]. قال السعدي: "يخبر تعالى أن من كان يريد الدنيا العاجلة المنقضية الزائلة فعمل لها وسعى ونسي المبتدأ والمنتهى أن الله يُعجل له من حطامها ومتاعها ما يشاؤه ويريده مما كتب الله له في اللوح المحفوظ، ثم يجعل له في الآخرة جهنم". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» [6]. قال النووي رحمه الله: "ومعناه أنا غني عن المشاركة وغيرها، فمن عمل شيئًا لي ولغيري لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير، والمراد أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه ويأثم به". ثم أوصيك أن تتعلم أحكام الحج والعمرة وما يتعلق بهما من شروط الحج وواجباته وأركانه وسننه؛ حتى تعبد الله على بصيرة وعلم.

ولازم يا أخي الرفقة الصالحة: فإنهم خير معين لك في هذا السفر المبارك، قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]. "ففيهما الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراء، فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» [7].

 

نسأل الله حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا وسعيًا مشكورًا.. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين [8].
 

_________________
[1]- رواه أبو داود [1639]، [5/275] والترمذي [809]، [3/430] وصححه الألباني برقم [4394] في صحيح الجامع.
[2]- رواه البخاري [3113]-[11/150].
[3]- مفتاح دار السعادة لـ(ابن القيم: [2/4].
[4]- رواه البخاري [2269]-[8/323].
[5]- رواه مسلم [1686]-[5/192].
[6]- رواه مسلم [5300]-[14/254].
[7]- رواه أبو داود [4193]- [12/459] والترمذي [2300]- [8/383] وحسنه الألباني في تحقيق سنن الترمذي [2378].
[8]- استفيد الموضوع بتصرف من:http://islamport.com/ و http://www.islamword.com