العمل في عشر ذي الحجة

فخص بعض الشّهور والأيّام بمزايا وفضائل يُعظم فيها الأجر، ويُكثر الفضل رحمة منه بعباده ليكون ذلك عْونًا لهم على الزيادة في العمل الصالح.

  • التصنيفات: فقه الحج والعمرة - ملفات الحج وعيد الأضحي - العشر من ذي الحجة -

الحمد لله رب العالمين، الذي خلق الزمان، وفضّل بعضه على بعض، فخص بعض الشّهور والأيّام بمزايا وفضائل يُعظم فيها الأجر، ويُكثر الفضل رحمة منه بعباده ليكون ذلك عْونًا لهم على الزيادة في العمل الصالح، والرغبة في الطاعة، والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد بن عبدالله، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، ودلنا عليه، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فإن من رحمة الله بعباده أن جعل لهم مواسم للخيرات، وما إن ينتهي موسم إلا ويجيء بعده موسم آخر؛ تجديدًا للنشاط، وإبعادًا للملل، فلا يكاد ينتهي وقت صلاة إلا ويدخل وقت أخرى، وما ينتهي شهر رمضان إلا وجاء صيام الست من شوال، ثم يأتي بعدها عشر ذي الحجة، وحج بيت الله الحرام، ثم بعد ذلك يوم عاشوراء، وهكذا، وسيكون الكلام في هذا المقام بعون الملك العلام سبحانه وتعالى عن العمل في عشر ذي الحجة وفضله، فالعمل في هذه العشر أفضل من العمل فيما سواها لحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه» قالوا: "ولا الجهاد؟" قال: «ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» [1]، وهذا الحديث دليل على أنها أفضل الأيام، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "وبالجملة فهذا العُشْرُ قد قيل: إنه أفضل أيام السنة، كما نطق به الحديث، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام، وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه، وقيل: ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وتوسط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل، وبهذا يجتمع شمل الأدلة" [2].

ولفضلها أقسم الله بها كما في سورة الفجر فقال: {وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2] قال ابن كثير رحمه الله: "والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير، ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف" [3]، وقال القرطبي رحمه الله: "هو الصبح، وعشر النحر، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر، وهو قول ابن عباس وعكرمة، واختاره النحاس" [4]، وقال: " {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} هو عشر ذي الحجة وقاله ابن عباس وقال مسروق: هي العشر التي ذكرها الله في قصة موسى عليه السلام {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142] وهي أفضل أيام السنة" [5].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» [6]، فقوله: "فأكثروا فيهن...إلخ" أمر من النبي عليه الصلاة والسلام بالإكثار فيها من التهليل والتكبير والتحميد.

وقال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:203] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: " قال ابن عباس: الأيام المعدودات أيام التشريق، والأيام المعلومات أيام العشر" [7]، وقال القرطبي رحمه الله: "وقال أبو حنيفة والشافعي: الأيام المعلومات العشر من أول يوم من ذي الحجة وآخرها يوم النحر، لم يختلف قولهما في ذلك، ورويا ذلك عن ابن عباس" [8].

 

ومن الأعمال التي يستحب أن تُعْمَلَ في هذه العشر المباركة ما يلي:

أولًا: المبادرة إلى الحج لمن كان مستطيعًا: وذلك لأنها أيام الحج، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفضل من حج ولم يرفث ولم يفسق فقال كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» [9].

ثانيًا: الإكثار من ذكر الله تعالى: من تهليل وتسبيح، وتحميد وتكبير، وقراءة للقرآن لعموم قول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]، ولقوله في الآية المتقدمة: {وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ...}.

ثالثًا: الصيام: وذلك لأن الصيام من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، خاصة بالحرص على صوم يوم عرفة، فيوم عرفة هو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وصيامه يكفر سنتين كما جاء من حديث أبي قتادة رضي الله عنه الطويل، وفيه قال عليه الصلاة والسلام: «يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» [10]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» [11].

رابعًا: المحافظة على الصلاة في أوقاتها حيث ينادى بها: وذلك لكون صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» [12]، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام بفصل المشي إلى المساجد كما في حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟» قالوا: "بلى يا رسول الله!!" قال: «إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط» [13].

 

فهذه بعض الأعمال التي ينبغي عدم تفويتها، ولا يُقتَصَرُ عليها، فأعمال الخير كثيرة، وقد أمرنا الله جل وعلا بالإكثار منها فقال في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، وعلى المسلم أن يستغل مثل هذه الفرص، ويبادر بالأعمال الصالحة حتى يفوز برضا الله تبارك وتعالى، لأنه لا يعرف متى سينزل به هادم الذات، ومفرق الجماعات، وميتم البنين والبنات، وهو لا شك آت.


نسأل الله تعالى أن يعيننا على طاعته، وعلى اغتنام الأوقات، وأن يغفر لنا ويرحمنا، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
 

_______________
[1]- رواه البخاري في صحيحه برقم (926).
[2]- تفسير ابن كثير (3/291).
[3]- تفسير ابن كثير (4/651).
[4]- تفسير القرطبي (20/37).
[5]- تفسير القرطبي (20/36).
[6]- رواه أحمد بن حنبل في المسند برقم (5446)، وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح، وهذا إسناد ضعيف لضعف يزيد بن أبي زياد وباقي رجال إسناده ثقات رجال الشيخين.
[7]- تفسير ابن كثير (1/331).
[8]- تفسير القرطبي (3/5).
[9]- رواه البخاري في صحيحه برقم (1449).
[10]- رواه مسلم  في صحيحه برقم (1162).
[11]- رواه البخاري في صحيحه برقم (5583)؛ ومسلم في صحيحه برقم (1151).
[12]- رواه البخاري في صحيحه برقم (619)؛ ومسلم في صحيحه برقم (650).
[13]- رواه مسلم  في صحيحه برقم (251).