فاعلم أنَّه لا إله إلا الله
خباب الحمد
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله: "فلما أصلح الناس أمورهم
وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً" كتاب
الاستغاثة للإمام ابن تيمية (2/276ـ277)....
- التصنيفات: الدعوة إلى الله -
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم
على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
لا ألذ للمرء المسلم، ولا أجمل من ساعات يقضيها في تأمل آيات الكتاب الحكيم، المنزلة من عند رب العالمين، كيف وهو سبحانه وتعالى القائل في محكم التنزيل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر: 23].
ووقوفاً بتأمل لقول الله تبارك وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد: 19]، فقد نزلت هذه الآية الكريمة على نبينا محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بعد ثلاث عشرة سنة من دعوته إلى التوحيد، واستفراغ وسعه في التبليغ والإنذار لكفَّار قريش ومن لفَّ لفَّهم.
ويحقٌّ للمتدبر في كتاب الله، أن يرجع الفكر والنظر كرَّتين بل كرَّات في تدبُّر هذه الآية، إنها تأمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتعلُّم التوحيد، ومعرفة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ حق المعرفة، مع أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أفضل الأنبياء والمرسلين، وأعرفهم بربِّ العالمين، بل هو نفسه قد دعا بهذه الكلمة الكفَّار والمشركين، كما روى ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه وكان جاهلياً فأسلم، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" [أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (15448) وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (834)].
قال الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ: "والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمرّ يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك رادّ، ولا يصدّه عن ذلك صادّ، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحجّ، يدعو من لقيه من حرّ وعبد وضعيف وقويّ، وغنيّ وفقير" (البداية والنهاية).
ولعل من الفوائد المستنبطة من قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد: 19] المنزلة على نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ بعد ثلاثة عشر عاماً في دعوته إلى التوحيد، لعلَّها تضبط في عدَّة نقاط محورية، يجدر التنبه لها، ويحسن تسليط الضوء عليها، فمنها:
1ـ أنَّ فيها دلالة واضحة في التأكيد على وجوب توحيد الله ومعرفته، ولو كان الداعية إلى ذلك من كبار الموحدين؛ لأنَّ النفس لايقوى إيمانها بالله، ولا تنبعث فيها روح الدعوة إلى الله، ولا ينقدح بين جوانبها التبيلغ والنذارة لهذا الدين، ولا يقوى ولاؤها لله، ولا براؤها من أعدائه، ولا تهفو للجهاد في سبيل الله، إلاَّ إذا كانت دعائم التوحيد فيها راسخة، وصلابة الإيمان في جذورها متعمقة، فينتج من ذلك، قوَّة العمل لهذا الدين، وعلو الهمة في بثِّه بين أنحاء المعمورة، وصلابة الإرادة في ذلك، وقوَّة الصبر على ما تواجهه من مصاعب وعراقيل، إثر قيامها بالتعليم، وتبليغ دين رب العالمين.
ولهذا فإنَّ الجهاد في سبيل الله، لم يشرع عبثاً، بل شرع لحماية ونشر راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) لتكون كلمة الله هي العليا، ولتحطيم جميع المكابرين الذين يحولون بين دعوة التوحيد وبين الناس، حتى تصل إليهم بنقائها وصفائها ، وتخلصهم من أدران الوثنية، وشوائب الشرك والعبودية لغير الله، ويدل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبَد الله وحده لا يشرك به شيئاً» والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده(7/123ـ125) وجوَّد إسناده ابن تيمية في الاقتضاء ، وحسَّنه ابن حجر، وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر، والشيخ الألباني ـ رحمهم الله ـ فالغاية من الجهاد تعبيد الناس لربِّ العالمين، والإبقاء على ملَّة إبراهيم حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين.
2ـ أنَّ العبد المؤمن يحتاج للمزيد من تدبر هذه القضية الكبرى، والحقيقة العظمى في الكون والحياة مطلقاً؛ إذ إنَّ الشيطان أقسم بإضلال الناس وغوايتهم، بحيله الماكرة، فقال: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ} [سورة النساء: 119]، فلا رادَّ لذلك، ولا عاصم إلاَّ الاستمساك والاعتصام بتوحيد الله، وتصفية النفس من درن الباطل، والرَّان المنطبع على القلب، ولا يتمّ ذلك إلا بثبات التوحيد في القلب؛ فالتوحيد كما أنَّه صلب، ولا يحتمل التموُّج والمساومة في مبادئه، فهو كذلك شفَّاف يقدح فيه أدنى شيء يخلُّ بلوازمه ومقتضياته، وقد عبَّر عن ذلك الإمام ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ بقوله: "التوحيد أشفُّ شيء وأنزهه، وأنصعه وأصفاه وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثِّر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون، يؤثِّر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدَّاً، أدنى شيء يؤثِّر فيها، ولهذا تشوهه اللحظة واللفظة والشهوة الخفيِّة" (الفوائد لابن القيم:42).
ويقصد ـ رحمه الله ـ باللحظة: "النظر إلى ماحرَّم الله". واللفظة: "الكلام الذي يتكلم به الإنسان سواء من شرك بالله، أوالكلام الذي لا يلقي له بالاً يقذف به في النار سبعين خريفاً". والشهوة الخفية: "إمَّا أنَّها حب الرئاسة والإمارة، أو أنَّها الرياء وعدم الإخلاص لله".
بل نجد أن الله ـ عزَّ وجل ـ يوصي الصحابة، ومن بعدهم من أهل الإيمان، بالإيمان بالله ورسوله، وإن كانوا مؤمنين، ليؤكد عليهم هذا المبدأ الثمين، حتى يقوى إيمانهم بالله، وتشتد قلوبهم على تحمُّل ما يرضيه ـ سبحانه ـ فيقول ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [سورة النساء: 136]، فهنا يدعو ـ جلَّ جلاله ـ أهل الإيمان إلى زيادة الإيمان بالله، وقوَّة الإصرار على ذلك، لأنَّه ليس كلَّ من قال لاإله إلاَّ الله، وأظهر إيمانه باليوم الآخر يكون مسلماً؛ ويدلُّ لذلك ـ قوله تعالى ـ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة: 8 ـ9]، فالعلم بالله تعالى لا يقف عند حد معيَّن، والمطلوب من المرء أن ترتقي معرفته وعلمه بربه باستمرار وعلى وجه الديمومة، ومن هنا كان الطلب في الآية من محمد صلى الله عليه وسلم بأن يعلم معنى وحقيقة لا إله إلا الله مرَّة بعد أخرى.
3ـ لاشكَّ أن الأمر بهذه الآية : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد: 19]، ليس خاصاً بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فحسب؛ وعليه فإنَّ علاج الخلل في التوحيد، وكما أنَّه يتمُّ بدرء الخلل عنه، وتخلية القلب منه ، إلاَّ أنه يحتاج إلى تمكين عرى الإيمان، وعُقَدِ التوحيد في القلب، وتحليته به، ليخالط بشاشة الإيمان القلوب، فيتم بذلك تخلية وتحلية، وكما يقول علماء الأصول: التخلية قبل التحلية، فيخلِّي الإنسان عن قلبه شوائب الانحراف العقدي، ويحليه ببلسم الإيمان، وصفاء الاعتقاد، ونقاوة التوحيد.
لا ألذ للمرء المسلم، ولا أجمل من ساعات يقضيها في تأمل آيات الكتاب الحكيم، المنزلة من عند رب العالمين، كيف وهو سبحانه وتعالى القائل في محكم التنزيل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر: 23].
ووقوفاً بتأمل لقول الله تبارك وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد: 19]، فقد نزلت هذه الآية الكريمة على نبينا محمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بعد ثلاث عشرة سنة من دعوته إلى التوحيد، واستفراغ وسعه في التبليغ والإنذار لكفَّار قريش ومن لفَّ لفَّهم.
ويحقٌّ للمتدبر في كتاب الله، أن يرجع الفكر والنظر كرَّتين بل كرَّات في تدبُّر هذه الآية، إنها تأمره ـ عليه الصلاة والسلام ـ بتعلُّم التوحيد، ومعرفة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ حق المعرفة، مع أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أفضل الأنبياء والمرسلين، وأعرفهم بربِّ العالمين، بل هو نفسه قد دعا بهذه الكلمة الكفَّار والمشركين، كما روى ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه وكان جاهلياً فأسلم، قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصر عيني بسوق ذي المجاز يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها والناس متقصفون عليه، فما رأيت أحداً يقول شيئاً، وهو لا يسكت، يقول: أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" [أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (15448) وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (834)].
قال الإمام ابن كثير ـ رحمه الله ـ: "والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمرّ يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك رادّ، ولا يصدّه عن ذلك صادّ، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحجّ، يدعو من لقيه من حرّ وعبد وضعيف وقويّ، وغنيّ وفقير" (البداية والنهاية).
ولعل من الفوائد المستنبطة من قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد: 19] المنزلة على نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ بعد ثلاثة عشر عاماً في دعوته إلى التوحيد، لعلَّها تضبط في عدَّة نقاط محورية، يجدر التنبه لها، ويحسن تسليط الضوء عليها، فمنها:
1ـ أنَّ فيها دلالة واضحة في التأكيد على وجوب توحيد الله ومعرفته، ولو كان الداعية إلى ذلك من كبار الموحدين؛ لأنَّ النفس لايقوى إيمانها بالله، ولا تنبعث فيها روح الدعوة إلى الله، ولا ينقدح بين جوانبها التبيلغ والنذارة لهذا الدين، ولا يقوى ولاؤها لله، ولا براؤها من أعدائه، ولا تهفو للجهاد في سبيل الله، إلاَّ إذا كانت دعائم التوحيد فيها راسخة، وصلابة الإيمان في جذورها متعمقة، فينتج من ذلك، قوَّة العمل لهذا الدين، وعلو الهمة في بثِّه بين أنحاء المعمورة، وصلابة الإرادة في ذلك، وقوَّة الصبر على ما تواجهه من مصاعب وعراقيل، إثر قيامها بالتعليم، وتبليغ دين رب العالمين.
ولهذا فإنَّ الجهاد في سبيل الله، لم يشرع عبثاً، بل شرع لحماية ونشر راية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) لتكون كلمة الله هي العليا، ولتحطيم جميع المكابرين الذين يحولون بين دعوة التوحيد وبين الناس، حتى تصل إليهم بنقائها وصفائها ، وتخلصهم من أدران الوثنية، وشوائب الشرك والعبودية لغير الله، ويدل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبَد الله وحده لا يشرك به شيئاً» والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده(7/123ـ125) وجوَّد إسناده ابن تيمية في الاقتضاء ، وحسَّنه ابن حجر، وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر، والشيخ الألباني ـ رحمهم الله ـ فالغاية من الجهاد تعبيد الناس لربِّ العالمين، والإبقاء على ملَّة إبراهيم حنيفاً مسلماً، وما كان من المشركين.
2ـ أنَّ العبد المؤمن يحتاج للمزيد من تدبر هذه القضية الكبرى، والحقيقة العظمى في الكون والحياة مطلقاً؛ إذ إنَّ الشيطان أقسم بإضلال الناس وغوايتهم، بحيله الماكرة، فقال: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ} [سورة النساء: 119]، فلا رادَّ لذلك، ولا عاصم إلاَّ الاستمساك والاعتصام بتوحيد الله، وتصفية النفس من درن الباطل، والرَّان المنطبع على القلب، ولا يتمّ ذلك إلا بثبات التوحيد في القلب؛ فالتوحيد كما أنَّه صلب، ولا يحتمل التموُّج والمساومة في مبادئه، فهو كذلك شفَّاف يقدح فيه أدنى شيء يخلُّ بلوازمه ومقتضياته، وقد عبَّر عن ذلك الإمام ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ بقوله: "التوحيد أشفُّ شيء وأنزهه، وأنصعه وأصفاه وأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثِّر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون، يؤثِّر فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جدَّاً، أدنى شيء يؤثِّر فيها، ولهذا تشوهه اللحظة واللفظة والشهوة الخفيِّة" (الفوائد لابن القيم:42).
ويقصد ـ رحمه الله ـ باللحظة: "النظر إلى ماحرَّم الله". واللفظة: "الكلام الذي يتكلم به الإنسان سواء من شرك بالله، أوالكلام الذي لا يلقي له بالاً يقذف به في النار سبعين خريفاً". والشهوة الخفية: "إمَّا أنَّها حب الرئاسة والإمارة، أو أنَّها الرياء وعدم الإخلاص لله".
بل نجد أن الله ـ عزَّ وجل ـ يوصي الصحابة، ومن بعدهم من أهل الإيمان، بالإيمان بالله ورسوله، وإن كانوا مؤمنين، ليؤكد عليهم هذا المبدأ الثمين، حتى يقوى إيمانهم بالله، وتشتد قلوبهم على تحمُّل ما يرضيه ـ سبحانه ـ فيقول ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [سورة النساء: 136]، فهنا يدعو ـ جلَّ جلاله ـ أهل الإيمان إلى زيادة الإيمان بالله، وقوَّة الإصرار على ذلك، لأنَّه ليس كلَّ من قال لاإله إلاَّ الله، وأظهر إيمانه باليوم الآخر يكون مسلماً؛ ويدلُّ لذلك ـ قوله تعالى ـ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة: 8 ـ9]، فالعلم بالله تعالى لا يقف عند حد معيَّن، والمطلوب من المرء أن ترتقي معرفته وعلمه بربه باستمرار وعلى وجه الديمومة، ومن هنا كان الطلب في الآية من محمد صلى الله عليه وسلم بأن يعلم معنى وحقيقة لا إله إلا الله مرَّة بعد أخرى.
3ـ لاشكَّ أن الأمر بهذه الآية : {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد: 19]، ليس خاصاً بمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فحسب؛ وعليه فإنَّ علاج الخلل في التوحيد، وكما أنَّه يتمُّ بدرء الخلل عنه، وتخلية القلب منه ، إلاَّ أنه يحتاج إلى تمكين عرى الإيمان، وعُقَدِ التوحيد في القلب، وتحليته به، ليخالط بشاشة الإيمان القلوب، فيتم بذلك تخلية وتحلية، وكما يقول علماء الأصول: التخلية قبل التحلية، فيخلِّي الإنسان عن قلبه شوائب الانحراف العقدي، ويحليه ببلسم الإيمان، وصفاء الاعتقاد، ونقاوة التوحيد.
يا أمَّة الحق ماذا بعد قد نفدت *** كل الدعاوي وكلَّت دونها الفكر
ماذا سوى عودة لله صادقة *** عسى تبدل هي الحال والصور
عسى يعود لنا ماضي به ازدهرت *** كل الدنا واهتدى من نوره البشر
4ـ إنَّ مما يستفاد من هذه الآية، أنَّ العلم بالتوحيد، لا يعني الإبقاء على تعلمه ومعرفته من ناحية نظريَّة معرفيَّة فحسب، بل ينبغي أن يقودنا ذلك لممارسة هذا التوحيد واقعاً ومنهج حياة، وقد كان صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقومون بذلك، بل وصفهم من جاء بعدهم من التابعين بأنَّهم كانوا كالمصاحف يمشون على ظهر المدينة ـ رضي الله عنهم وأرضاهم ـ وعودة للآية: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [سورة محمد: 19]، فإنَّا نجد عقِبَها مباشرة: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [سورة محمد: 19]، والمعنى أن يتبع هذا العلم الذي يتعلمه المرء المسلم؛ العمل به والتطبيق له، ولهذا نجد الإمام البخاري بوَّب باباً في صحيحه بعنوان: (باب العلم قبل القول والعمل) واستدل بقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} فبدأ الله تعالى بالعلم قبل القول والعمل.
إنَّنا ينبغي أن نعترف بأنَّ أيَّ خلل طارئ على من وحَّد الله ، لا يكون ذلك إلَّا بعدة أشياء، ومن ألزمها ذكراً:
• ضعف مراقبة الله، وقلَّة الوازع الديني الذي يجب أن يتنامى في القلب، حتى لا يكون القلب كالكوز مجخياً ، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً.
• ضعف ارتباط العبد بربه من نواحي العبادة كالرجاء والخوف والمحبة والاستعانة والاستغاثة، وقلة الانطراح بين يديه، والانكباب على عتبة بابه، مع أنَّ هذا الأمر من أشدِّ الأمور، التي لزمها الأنبياء والأولياء الصالحون، ومنهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ حيث كان داعية للتوحيد، ومحطماً لأوثان المشركين، ومع هذا فقد خاف على نفسه من أن تشاب بلوثات شركية، فقال لربه داعياً: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم: 35]، ومكمن المسألة في ذلك؛ دعاء إبرهيم ربَّه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام . ثمَّ يبين إبراهيم ـ عليه السلام ـ سبب دعائه، فيقول: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ} [سورة إبراهيم: 36]، ولهذا علَّق الإمام إبراهيم التيمي على قول إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ قائلاً: ومن يأمن البلاء بعد أبو الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ؟ (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، للشيخ: عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ/ صـ 74).
ومما يستنتج من دعائه ـ عليه السلام ـ أن الأشياء التي تعبد من دون الله، قد يكون لها حجم واسع من التأثير على الناس، بإضلالهم عن الصراط المستقيم ، ويمثِّل أهل العلم عليه بأمثلة، ومنها أن يلجأ شخص إلى القبور فيستغيث بأصحابها أو يدعو متوسلاً بأصحابها، فيستجيب الله دعائه بسبب إخلاصه لله في الدعاء، وتضرعه أثناء الرجاء، فيعطيه الله مراده، فيظن ذلك الداعي أنَّ ذلك حصل بسبب دعائه عند صاحب ذلك القبر، فيذهب له ويزداد تعلقه به، وهكذا مع العلم بأنَّ هذا الرجل الذي قام بهذه الطريقة غير المشروعة، أراد الله أن يعطيه مراده بمشيئة الله وإرادته الكونية القدرية، وليس بسبب دعائه عند من لا ينفع ولا يضر أو توسله به أو استغاثته به، فيفتن الرجل بذلك الطاغوت،ويلتجئ إليه في سرِّه وعلانيته، وفي شدَّته ورخائه ـ عياذاً بالله ـ {وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً} [سورة المائدة: 41].
4 ـ في هذه الآية تنبيه لبعض الدعاة القائلين بأنَّ قضية التوحيد سهلة، ولاتحتاج إلى ذلك التكثيف العلمي والتعليمي، أو أنَّ لدينا من هموم الأمة ما يحوجنا بالكلام عنها أكثر من قضية باتت معروفة في أذهان المسلمين، والجواب عن ذلك:
أولا ـ أنَّه ـ تعالى ـ ما خلقنا إلا لعبوديته وتوحيده ، وإرساء تلك المعالم العقدية في قلوبنا، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات: 56]، ولو كانت دعوة التوحيد يسيرة لما جلس ـ عليه الصلاة و السلام ـ ثلاثة عشر سنة يدعو لذلك الناس مسلمهم وكافرهم.
أمَّا مسلمهم: فلكي يتأكد ذلك في قلوبهم وليكوِّن ـ عليه الصلاة والسلام ـ من قلوبهم قاعدة صلبة للبناء الإيماني ، لتتحمل الواجبات والفرائض المفروضة من قِبَلِهِ تعالى.
وأمَّا كافرهم: فلتقوم الحجَّة عليهم، بالبلاغ المبين، والبيان الواضح، ولهذا بقي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يدعو لذلك جميع الناس حتى قبضت روحه الشريفه ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ليبقى التوحيد في قلوب المسلمين صلباً ، لا تزعزعه أعاصير الشرك العاتية، ولا رياح التغيير المنحرفة عن المنهج الإسلامي: (منهج أهل السنة والجماعة).
ثانياً ـ أنَّ التوحيد ليس قضية سهلة، بل إنَّ هذه القضية على شفافيتها، فإنَّ تطبيقها والعمل بها من أصعب ما يكون، ولهذا قال ـ سبحانه ـ: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [سورة المزمل: 5]، قال الإمام مالك: "ليس في دين الإسلام شيء سهل، واستدلَّ بهذه الآية".
والمقصود أنَّ التوحيد والإيمان يحتاج سنوات عديدة في العمل لأجله، ومجاهدة النفس على تنقيتها مما يخل بذلك، لتتأصل النفس على الإبقاء عليه، والاستمساك بحبله، وقد قال جندب بن عبدالله وعبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهم ـ : "تعلمنا الإيمان ثمَّ تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً".
ثالثاً ـ إنَّ مآسي الأمة ونكباتها لاريب أنَّها تبعث الأسى في القلب، ولكنها راجعة لعدة أسباب أولها ذكراً: ضعف إيماننا بالله وتعلقنا به وعبوديته الخالصة، فكم يوجد في عصرنا من المنتسبين إلى الإسلام، يشركون بالله، ويقصدون القبور للطواف حولها، والتعلق بأصحابها، والاستغاثة بهم؟!
وكم يوجد منهم ممَّن يستغيث بغير الله، ويحلف بغير الله، ويستهين بحرمات الله؟!
وكم هو منتشر في بلاد المسلمين التحاكم إلى القوانين الوضعية المغايرة للإسلام؟!
وكم من منافق يدسُّ سمَّه في الظلام، ويطعن المسلمين خلف ظهورهم، وكم من خائن يدلُّ أهل الكفر على المسلمين المستضعفين، ويبيع دينه بثمن بخس؟!
كم يُعْرَض في وسائل الإعلام من الأمورالمنحرفة عن التوحيد الخالص بتعظيم الكفار، والتشبه بهم، والتمنطق بأقوالهم، والتهنئة بأعيادهم، وربط صلات التآخي والمودة معهم؟!
وكم هو منتشر في بلاد المسلمين السحر والسحرة والشعوذة والتعلق بالرقى والتمائم والتعاويذ الشركية. وكم انتشرت البدع والانحرافات الفكرية ما بين مقلٍّ ومكثرٍ في عقول الكثير من المسلمين.؟!
والتعاويذ الشركية، وكم انتشرت البدع والانحرافات الفكرية ما بين مقلٍّ ومكثرٍ في عقول الكثير من المسلمين.؟!
إنَّ تقصير الكثير من المنتسبين إلى الإسلام بتلك القضايا المصيرية أمر واضح، فمتى يترك هؤلاء ذلك الخطل والخلل؟!
ولهذا فإنَّ الإمام ابن تيمية لمَّا رأى تكالب الجيش التتري المغولي على بلاد الإسلام وتقتيله المسلمين وكثرة الهزائم المتتابعة عليهم ، نظر بعين البصر والبصيرة أسباب تلك الهزائم فوجد أنَّ من أهمها إصلاح عقائد من تلوث ممن ينتسب للإسلام بدرن الشرك بالله، وقد حدَّث ـ رحمه الله ـ كيف أنَّه لما هاجم التتارُ بلادَ الشام؛ خرج أهل الشام يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضُرِّهم ، وقال بعض شعرائهم:
يا خائفـين من التـتـر *** لوذوا بقبر أبي عمر
لوذوا بقبـر أبي عمـر*** ينجيكموا من الخطر
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله: "فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً" كتاب الاستغاثة للإمام ابن تيمية (2/276ـ277).
وبعد... ألسنا بحاجة ماسَّة إلى وقفة محاسبة، ترجعنا إلى أهمية الإعادة والتكرار لمبادئ التوحيد، وقضاياه الكلية، من قِبَلِ دعاة الإسلام، ومن ثمَّ تنبيه الناس لذلك، وعقد الندوات والمحاضرات والدروس المتتابعة لأجله، في جميع أنحاء الأرض، ليكون المسلمون في حصن حصين، وحرز مكين، من كلِّ داعية سوء، أو صاحب ضلالة مردية، تجنح بهم إلى الكفر والفسوق والعصيان، ولهذا فإنَ دواعي الأسى والنكبات في هذه الامَّة لن تزول إلاَّ بعدَّة أمور أولاها وأولها ذكراً؛ توحيد الله تعالى والإيمان الراسخ به حقَّ الإيمان، وإنَّ من سنن الله ـ تعالى ـ ألاَّ يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، من الانحراف عن المنهج، وسلوك الطريق الخاطئ، وتضييع الأمانة {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأنفال: 53]، وقد أحسن الشاعر المسلم محمد إقبال حين قال:
إذا الإيمان ضاع فلا أمان *** ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دينٍ *** فقد جعل الفناء لها قريناً
وفي التوحيد للهمم اتحاد *** ولن تبنوا العلا متفرقينا
فهل نعاود قراءة القرآن، وكتب أهل العلم من أهل السنَّة والجماعة ونستفيد منها دروساً في التوحيد والإيمان، ونطبقها في أرض الواقع، ودنيا الناس، مقتفين أثر سلفنا الصالح، حين اهتموا بهذه القضية وأولوها عناية تامَّة، وقدَّموها على جميع العلوم والمعارف، ورحم الله الإمام أبا حنيفة حين قال مؤكداً على أهمية التفقه في التوحيد: الفقه في الدين أفضل من التفقه في العلم.
أسأله ـ تعالى ـ أن يميتنا على الإسلام، والتوحيد الخالص غير مبدلين ولا مغيرين، ومن الله العون والسداد، وهو الموفق للرشاد.
المصدر: طريق الإسلام