أثر البيئة على سلوك الانسان
بداية من ميلاد الإنسان حتى مماته تبدأ البيئة المحيطة به تؤثر فيه، فكل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، ثم تتنوع الأشياء المؤثرة فيه من أبوان مثقفان متعلمان أم لا، ثم أصدقائه ومدرسته والحي الذي ينشأ به؛ ومن ثم تخصصه وعمله وما يؤثر عليه من علوم؛ وإن كانت السنوات الأولى من عمر الإنسان هي اللبنة التي تٌشكل ملامحه في المستقبل وما هي ميولة وما هي طباعه.
الظروف المحيطة بكل إنسان هي بالفعل من لها تأثير قوي على سلوكه وأفعاله بغض النظر عن الحالات الشاذة القليلة، إلا أن بعض الضمائر تموت سريعاً وبعضها يصمد أمام العواصف إلى آخر نفس؛ فإذا صمد وكان صادقا أعانه الله على ظروفه وأبق له ضميره حيًا.
فتجد على سبيل المثال من تربى في بيتٍ صالح متدين له تأثير عليه كبير، على عكس من تربى في وسط فاسد فنشأ على الفساد، وكما قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ماكان عوده أبوه
ومن تربى في بيئة فقيرة أثرت فيه وكذلك من تربى على الطرف والغنى لها تأثيرها الواضح عليه، وكذلك من تحمل المسئولية الشاقة في تربية أخواته بعد يُتمه وهو صغير فأصبح صلباً قوياً منذ الصغر، ومن إعتاد الدَلاَل من الصعب أن يستقيم إلا بصعوبة، فمن هنا تعددت الظروف المؤثرة على حياة الناس.
فمنهم من استسلم للظروف وانساق على ما أمرت به، ومنهم من حاول من إصلاح الظروف المحيطة به حتى ولو أثرت فيه قليلا.
كان لي صديقاً تأثرت أخلاقه كثيرًا بعد أن امتهن مهنة معينة، وآخر ازداد غرور بالتحاقه بكلية قيّمة، وآخر قسى قلبه بعد أن زادت أمواله، وغيرهم الكثير من أثرت البيئة الجديدة عليهم.
ومن عِظم تأثير المكان على الانسان حديث من قتل مائة نفس؛ فذهب إلى عالم فقال له انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فقد يتجمع كثيرًا من الشر في مكان واحد كما أيضا يحل الخير والصلاح على مكان ما؛ وإن كان أغلب الأماكن لا تخلو من الذنوب ولكن ما نتحدث عنه هو الظاهر العام للمكان وما يشتهر به؛ وكذلك الأعمال فمنها ما يغلب عليها الفساد والشر ومنها ما يقربك إلى الله.
ومن حكمة الخالق أنه جعل لبعض الأماكن فضلا عن الآخرى؛ فجعل مكة والمدينة والقدس وما حولهم مباركًا والصلاة فيهم أضعاف أضعاف الصلاة فيما سواهم، كما تفضل سبحانه بتكريم أماكن ذكرت في القرآن عن آخرى؛ وفضل أيضًا أياما وشهورا عن بعضهم؛ وجعل أفضل الأيام يوم الجمعة وأفضل الشهور شهر رمضان وخص منه أفضل الليالي وهي ليلة القدر وجعل من يوم الجمعة ساعة استجابة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه إياه.
ومن خلال تجاربي الحياتية لقد تعاملت مع الكثير من الجنسيات المختلفة بحكم عملي وتنقلي؛ فتعاملت مع العربي والهندي والفلبيني والبنجلاديشي والنيبالي والصيني وغيرهم؛ ومن العرب من هم مختلفون في الأماكن والعادات كمن يسكن شمال غرب أفريقيا ومن يسكن جزيرة العرب ومن يسكن بلاد اليمن؛ وكلاً منهم مختلف إختلافً كبيرًا عن الآخر ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13].
فهنا كان تأثير البيئة والمنطقة بإختلافها تأثير على كل شخص من هذه الجنسيات؛ فتجد بيئة الإنسان الصحراوية تختلف عمن يسكن الحضر والمدن وتؤثر البيئة الفقيرة على سُكانها مثل البنجلاديشي والنيبالي وبلاد جنوب أفريقيا والصومال وتؤثر الحرية في المعتقدات وغيرها على الفلبيني، وتأثر الهنود كلاً حسب منطقتة لكبر حجمها وجاء الصيني مختلفًا كليًا عن الجميع؛ فتأثر بالماديات والدقة في كثير من الأشياء مما تربى عليها، وجاء ابن شمال افريقيا باختلاف؛ فهناك فرق بين الجزائري في الطباع وبين التونسي والمغربي؛ وهناك من تربى على صوت المدافع والقنابل وتوقع الموت في أي وقت فكان ابن فلسطين مختلفًا عن الجميع.
وفي مصرنا يختلف الصعيدي عن ابن المدن الكبيرة كالقاهرة والاسكندرية؛ ويأتى ابن القناة والسواحل باختلاف كبير؛ حتى اللهجات مختلفة وليس ذلك فحسب؛ بل هناك من يختلف باختلاف الأحياء فهناك من يتأثر على حسب الحي الذي يسكنه؛ كالذي يسكن الحي الشعبي والذي يسكن الأحياء الراقية ولكن الشيئ الذي يميز الإنسان في كل مكان وفي كل بيئة هو الخلق والتربية الصحيحة؛ إن تواجدت في أي مكان فسيكون لها الفضل الأكبر والحظ الأوفر مهما كان من حولك يدعو إلى السوء؛ ولكن سيكون كالذي يقبض الجمر على صدره.
يقول الدكتورعادل صادق: "إن كل إنسان هو محصلة إرثة الخاص من جينات الوراثة مضروبًا فيه أو مضافًا إليه أو متفاعلاً مع ظروفه البيئة التى تربى فيها".
ونجد ذلك كثيراً في بيئة العمل فتجد العامل الذي تربى على استخدام الآلآت البدائية في العمل انتاجه ضعيف عمن تربى على استخدام الآلآت الحديثة في اليابان وألمانيا؛ فنفس الإنسان يحمل نفس العقل والأطراف والجسد؛ ولكن البيئة التى تربى فيها أثرت في عمله للشيئ؛ فكان انتاجه أفضل عن الآخر؛ وتجد العامل الزراعي الذي كان يستخدم في بلده الأدوات البدائية عندما هاجر وسافر وعمل في الزراعة وجد إختلاف كليًا في العمل، فما كان ينتجه في عام كامل؛ أصبح ينتجه في شهر أو أقل وهو هو نفس العامل؛ ولكن البيئة المحيطة اختلفت ولك في بعثات محمد علي باشا إلى أوربا وغيرها الدليل على ذلك، ولقد رأيت على المستوى الشخصي أشخاصا تحسنوا أخلاقياً بتغير أماكنهم عندما تركوا البيئة التي اعتادوا عليها من فعل السوء.
ومن هنا جاء أهمية التنقل من مكان لآخر إذا اضطررت لذلك؛ سواء لظروف مادية أو أخلاقية؛ فمن خاف على أولاده من البيئة المحيطة والتنشئة في مكان يؤثر بالسلب عليهم فعليه البحث عن مكان آخر أفضل؛ ومن خاف على فتنة في دينه فليبحث عن مكان يعبد الله فيه حق العبادة وهكذا؛ وكلاً على قدر إستطاعتة، فمن يعمل بمهنة يوجد بها شبهات كثيرة وجب عليه الصبر حتى يستطيع إيجاد عمل آخر شريف؛ ولكن سنحاسب بالتأكيد على عدم تحركنا ونحن قادرين أن نغير من عمل فيه شبهات؛ أو ببعدنا عن مكان لا نستطيع عبادة الله حق العبادة ونحن قادرين على ترك هذا المكان؛ سنحاسب بالتأكيد على الأمانات التى أمننا الله عليها من أطفال ونساء إذ لم يجدوا مكانًا تصلح فيه حياتهم؛ ونحن قادرين على الانتقال إلى الأحسن، سنحاسب على عدم محاولتنا تغير الظروف المحيطة بنا، سيقول لنا الله ألم تكن أرضي واسعة.