لا إكراه إلاّ في العلمانية
محمد بوقنطار
العجيب أن تجد العلمانيين في غمرة تسلطهم وعز سطوتهم والحال أن جاهليتهم هي المحكمة وقوانينهم هي السارية السائدة، ومع ذلك لا يستحيون والأمة تعاني من سكرتي الجهل والتخلف الهالك أن يرفعوا في مقاربة الحل والعلاج والإبقاء على إدانة الإسلام البريء شعار "العلمانية هي الحل".
- التصنيفات: الواقع المعاصر - قضايا إسلامية معاصرة -
من أكبر ما يستصرخ به العلمانيون ويستنصرون به في دَرك مدافعتهم وغدر هجومهم؛ قولهم بالتحقيق حفظا وتجويدا وترتيلا قال الله سبحانه: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم).
وهم في قولهم هذا ترى أعينهم تكاد تفيض من الدمع من وطأة وثقل ما عرفوه من مراد الله ورسوله من هذين النصين، ومن أثر التعظيم والتوقير الحاصل من الالتزام بلازمي النصين والمناطحة من أجل تنزيل جدواهما على مقاس فهم القوم على الحصر والقسر، وهم من هم بالاسم والرسم والفعل، هم الذين ارتجت بضجيجهم زوايا الأرض وجغرافيا المسلمين؛ وهم يكرهون الناس على علمانيتهم ويسومونهم سوء العذاب، لا يوقرون كبيرا ولا يرحمون صغيرا عند نقطة أي استدراك أو حق احتجاج على أس فلسفتهم التي قامت وتقوم على مبدإ "لا إكراه إلا في العلمانية" و"لا توقير ولا احترام إلا للحرية والعقل المتسفل في نقيصة الفصام الفطري".
وقد قيدنا العقل بالتسفل توجيها حتى لا نفقد بوصلة الصوب، ذلك أن دعوى العقلانية في باب التنظير يعمه الإجمال والتدليس الذي يغشي الأبصار ويصم الآذان ويقفل الجنان. وربما احتجنا حتى لا يتخبطنا شيطان إجمالهم بمس انخداع أن نحدد مفهوم الحرية عند القوم مبتسرين معناها في كونها هي جعل الأحداث في الكون المادي لا تجري لهدف ولا لحكمة، بل هي الجري اعتباطا والعدو عبثا والسعي الذي لا مقصد له ولا قيد.
فإذا كانت حرية الحيوان يضبطها وازع الخوف والجوع والشهوة، فإن منطق الحرية في جانبه التمثلي عند القوم لا يضبطه خوف ولا أمن منه ولا جوع ولا شبع منه ولا شهوة ولا إمساك عنها في غير حاجة، يعضد هذا شواهد التاريخ المعاصر من جهة ما سجله على المدنية التي رفعت شعارات الحرية والعدل والمساواة وتبنت مواثيق حقوق الطفل والإنسان والحيوان والبيئة والأوتان "بودا نموذجا"؛ وهلم جرا من الشعارات والمبادئ الطوباوية التي لا تمت بأي حال ولا يجمعها وصال أو سند اتصال بالواقع الفعلي لهذه المدنية المتوحشة التي نجزم بيقين أنها سفكت وولغت من الدماء البشرية، دماء المستضعفين من الشيوخ والنساء والولدان ما لم تسفكه ولم تفترسه وحوش الأرض قاطبة من لحم الظباء والحمر الوحشية، بل ما لم تخلفه الزلازل التي ترادفت هزاتها في مشارق الأرض ومغاربها ولا العواصف الموسمية التي ضربت وتضرب شرق آسيا وشبه الجزيرة الهندية.
وهل بلغ الحمار بأنكر الأصوات أن يؤاخذ ويؤخذ مأخذ من قرر بجرأة كفر وبغي جحود وهو أحد أساطين الفكر الحداثي العلماني المعاصر "جوليان هكسلي" وهو يقول في كتابه الإنسان في العالم الحديث: "إن الإنسان قد خضع لله في الماضي بسبب عجزه وجهله، والآن وقد تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر العجز والجهل على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله" نعوذ بالله من الكفر والجحود.
والحقيقة أن باب المقارنة بين سفك هؤلاء وافتراس الحيوان لا أسوقه إلا عنوة على النفس، ولعل في النفس ما فيها من مضض الحياء الحامل على الاعتذار لمعشر البهيمة، وربما كان ذلك لأمور على رأسها أن الحيوان وهو يمارس عواءه وهدير صيده كان لا يملك ولا يقدر ولا يفكر في ستر نبرات صوته المتوحش ولا طي ورقة مطلبه الفطري، وهذا ما لم نسجله عن معشر العلمانيين ومن يدور في فلك فلسفتهم إنابة وإخباتا من الساسة والمنظرين والعسكريين والمشعلين لفتيل الحروب باسم الأمن والسلام، من الذين استطاعوا أن يسوغوا القتل والفتك والسلب والاغتصاب واللصوصية وإخراجه رنانا طنانا في قالب سمفونية لحن منغوم، فأمريكا مثلا في حربها على العراق قد قامت بسرقة 20 تريليون من الذهب بل قتلت من العراقيين 3 ملايين نسمة موحدة، ناهيك عما سلبته بالليل والنهار من الآثار التاريخية التي لا تقدر بثمن من جهة قيمتها الحضارية.
ومع هذا وأكثر فساستها المتعاقبون على كرسي إمبراطوريتها الدموية لا يستحيون وهم يعتلون المنابر الدولية والإغاثية ليحدثوا الحضور المدخون عن جليل أعمال جيشهم الباسل في بلاد ما بين الرافدين وعن تحرير شعبي العراق وأفغانستان من فكي الحكم الاستبدادي وتلقين الشعوب المحررة تعاليم الديمقراطية السمحة والعلمانية المتحضرة.
فهل كان الحيوان ليفر لو طاب له أمن؛ أو ليفترس إن ظفر بشبع؛ أو ليغتصب إن حفظت له نقاوة جنس، وهو بين هذا كله لم يحصر الحل في المواجهة أو في ما ظاهره الاعتداء الذي تحكمه قوانين الغاب، بدليل أننا رأينا كيف ترضع اللبوءة صغار الظبي وكيف يعانق الأسد والضبع والنمر والتمساح والدب المتوحش معشر من ربوهم وأسدوا لهم معروف الإطعام وإحسان الرضاعة من بني البشر.
ولك في هذا المقام الرفيع أن تتسفل في المقارنة بين أسد سوريا كناية وأسد الغابة على حقيقة ليتبين لك واجب الاعتذار وشرعيته من جنس الحيوان وصنف البهيمة.
والغريب المستغرب بعد هذا كله أن تجد من يعيش معنا وفي غير طلب شهادة تجده أينما حل وارتحل إلا وأجرى لسانه بمدح القوم والثناء عليهم، فهم عنده وعند شواكله قوم متحضرون متنورون مترفقون بالخلق معتنقون للحق بتفكر وتدبر وتذكر، فهم ولا شك عنده قد فازوا بالاستعلاء والتفوق المادي الذي لا ينخدش صفاءه بظلم أو سلب أو لصوصية مارسها هؤلاء المتفوقون المستعلون بغير حق والمتسلطون على الخلق.
ولقد آن الأوان أن نُسمع معشر الأفاكين الكذابين المترفين المتحاملين على هذا الدين العظيم أنه ومنذ أن وطئت حوافر الغازي الأجنبي المستعمر الغاشم ثغور الوطن وجغرافيا المسلمين، فتشابكت الأيدي بالعهد في خفاء وتواطأت بالوعد النيات بين هذا الغازي وأبنائه بالرضاعة على إبعاد الإسلام وركنه بعيدا عن معترك الحياة ومجريات الأحداث؛ حيث عُطلت شريعته وعلق الحكم بنصوصه وحفظت أصوله في الباب وكذا الفروع في درج النسيان المعلق إلى حين غير محقق، لتحل محلها القوانين ومشاريعها الوافدة من بلاد الصقيع المشفوعة بالنفاد المعجل، ومع ذلك بقي الإسلام العظيم مدانا متهما كسبب ومسبب في كل تقهقر وتخلف وجهالة ومذلة ومغلوبية وحبل المعطوفات طويل الذيل عريض المنكبين، وهو الذي لم يبق من أنفاسه إلا نصوص محبوكة في ضيق وقدرة سموها بغير نسيكة "مدونة الأسرة" أو "مدونة الأحوال الشخصية" قديما، وهي التي تداعت على قصعتها نسوة المدنية القشيبة فترادفت عليها عمليات القص والنسخ والفسخ بدعوى تقادم أحوالها الحمالة أوجه، وبدعوى أن الظني فيها هو السائد والقطعي يكاد ينعدم وبدعوى أن الدهر أكل عليها وشرب ودار دورته منقلبا على رجعيتها.
حتى كان من جرأة بعض ممن لم يلامس ردفهن حصير كُتاب ولا سجاد مسجد ممن تربين في محاضن الإلحاد الحائف، ومشاعية الفكر الزائف، اتهام نصوص الوحي الشريف في جانب الفروض بالظلم والحيف الواقع على جنس النساء داعية إلى واجب الثورة عليها ونسف دورها المؤطر للأسرة.
والعجيب أن تجد العلمانيين في غمرة تسلطهم وعز سطوتهم والحال أن جاهليتهم هي المحكمة وقوانينهم هي السارية السائدة، ومع ذلك لا يستحيون والأمة تعاني من سكرتي الجهل والتخلف الهالك أن يرفعوا في مقاربة الحل والعلاج والإبقاء على إدانة الإسلام البريء شعار "العلمانية هي الحل،" ولنا إن شاء الله وقفة تأملية مع هذه الدعوى وهذا البهتان في عود على بدء متصل بما سطرناه في هذا المحبور بفضل من الله ومنته.