من كل حجرٍ مرتين!!

محمد جلال القصاص

  • التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، ومن أحبه واتبع هديه، وبعد:ـ
من المهم في التحليل تحديد محيط الرؤية، ومن المهم تحديد الفاعلين وترتيبهم حسب إمكاناتهم وأهدافهم، ومن المهم فهم السياقات من خلال الدوافع والأهداف. 
ماذا يحدث في سوريا؟


في المشهد السوري:

دول الخليج: تتقي ثورة شعوبها بتأديب الشعوب الثائرة، يخربون البلاد ويقتلون العباد.. يفسدون الحرث والنسل كي يبقى ملكهم؛ وتحاول تلك الدول كسر قيد يشد عليها في الشمال والجنوب من الدولة الفارسية التي تتخذ الرفض والروافض أداة للتغلغل في المجتمعات العربية. وقد شهدت لبنان جولة (شخص مدرس الرياضيات الحريري المدعوم سعوديًا، مع حسن نصر وحزبه). 
وأهم أدواتهم المال. يدفعونه لمن يحقق هدفهم (إهلاك العباد وتخريب البلاد تأديبًا للمطالبين بحريتهم)، فحينًا يدفعونه للعسكر، وحينًا يدفعونه للروافض أنفسهم (حالة اليمن في الفصل الأول من مسرحية اليمن)، وحينًا يدفعونه للمجاهدين في الشام، وحين يدفعونه "للسلفية العلمية"، و"السلفية السياسية"..
الأمريكان: يقود الأمريكان النظام الدولي، وتتواجد الولايات المتحدة في المشهد بصحبة حلفائها الأوروبيين – وأوربا لها اهتمام خاص بدول حوض البحر الأبيض المتوسط وخاصة سوريا-؛ ولهم هدف رئيسي تحته عدد من الأهداف، فهدفهم الأول: تخريب المنطقة بأيدي الكتل المتصارعة من أبناء المنطقة لإعادة هيكلتها جغرافيًا وسياسيًا وثقافيًا ضمن سياق تفتيتي تسير فيه الحضارة الغربية منذ خرجت بشرها علينا، إذ الحرب أسهل الطرق لإحداث تغيرات شاملة، وأيضًا – ليتفرغوا للصين؛ ودون ذلك من أهداف فتح سوق استهلاكية وتأمين الموارد الطبيعية: بيع السلاح، وسهولة الحصول على البترول وغيره من موارد المنطقة، وإيجاد فرص استثمار لشركاتهم فيما يعرف بـ "إعادة الإعمار".
وأداة النظام العالمي في تحقيق أهدافه كثيرة ومتنوعة ومتجددة، أهمهما آلية الكتل المتصارعة. فأمريكا في المنطقة تؤدب إيران، بحصارها اقتصاديًا، ثم بتوريطها مع الجماعات المسلحة في العراق، ثم بتوريطها في سوريا ضد المجاهدين المدعومين من الخليج صديق الأمريكان، ثم توريطها في اليمن في حرب ضد الخليج الثري، فنزفت إيران في العراق، ونزفت في اليمن، وطعنت وإبنها (حسن نصر)، وحليفها (بشار) في سوريا، حتى انهكت وإن ضربت الآن أو ضغطت ستتكسر ويعاد تشكيلها بسهولة حسب رؤية العم سام، مع الأخذ في الاعتبار المحاور الأخرى للفعل، وخاصة المحور الثقافي. 
وأمريكا تسنزف أموال الخليج ، وتثير المشاكل على حدود تركيا للضغط عليها، وربما لإحداث تغيرات فيها هي الأخرى.
وفي كل هذا أمريكا لا تخسر شيء: لا دماء، ولا أموال. تربح في كل الأحوال.


الروس: وهم غير الاتحاد السوفيتي القديم، فروسيا التي تظهر في المشهد اليوم دولة وليست اتحاد دول ينوب أو يسيطر على الكتلة الشرقية، دولة تحاول أن تلعب دورًا إقليميًا، والخلل عند من يحلل نفسه، فهو يتعامل مع دولة روسيا وكأنها الاتحاد السوفيتي القديم؛ وبخصوص الروس في المشهد العربي عامة والسوري خاصة نلاحظ:
·      روسيا قدمت لسوريا باتفاق ضمني مع الخليج ومع الأمريكان أنفسهم (اجتماع وزير خارجية روسيا وأمريكا والسعودية بالإمارات، ومحادثات بوتين في نيويورك، ومحادثات بوتين ونيتانياهو في موسكو)، ومصالحها في سوريا محدودة جدًا، تتمثل في قاعدة بحرية صغيرة، وعقود تنقيب عن البترول والغاز (ولا تمثل مصادر الطاقة مشكلة بالنسبة للروس فهم مصدرون لها).
·      لا تمتلك دولة روسيا تأثير ثقافي ولا تغلغل اقتصادي (من خلال شركاتها) في المنطقة، ويصعب فهم تحركات النظام المصري والسعودي تجاه روسيا في غير الترتيبات الأمنية وفي إطار الرضا الأمريكي، وبالتالي الحديث عن أطماع روسية في المنطقة ما هو إلا أوهام الماضي يستحضرها الخيال، وتحتاج روسيا الحالية دورة تاريخية كي تعود كقوة عظمى.

الجماعات الإسلامية:
تتطور فكريًا وحركيًا في سياق مستقل، وهي الآن تتحول من مرحلة "حرب العصابات" إلى مرحلة بناء الدولة على أسس مختلفة عن النظام الدولي؛ ومظاهر هذا التحول في البحث عن جغرافيا، وفي الحديث عن عملة مستقلة، وحاضنة شعبية، وصراع مع القوى الإقليمية والدولية انطلاقًا مما في أيديهم من جغرافيا. وهذا هو الجزء الأكبر والأكثر تأثيرًا وانتشارًا بين الجهاديين.
وتوجد بقية مشتتة في هيئة جماعات صغيرة تخضع للتمويل الإقليمي، وبالتالي للتوجه الإقليمي، وخاصة الخليجي، وهذه تتآكل على مستوى الخطاب وعلى مستوى التواجد على الأرض، تبتلع رويدًا رويدًا أدبيًا بسبب ارتباطها بأنظمة فاسدة، وحركيًا بسبب تطور الجزء الأول من المقاتلين.
والجهاديون لهم أداتين يصارعون بهما: الأولى: أنهم مطلب ضروري من أجل الموازنات الدولية في المنطقة كي يبقى الصراع. فهم فاعل بغيرهم، والثانية: قوتهم الذاتية كرجال عصابات، ثم كمؤسسين لدولة في أهم بقعة استراتيجية في المنطقة (العراق).
تكالب الأمم جاء باتفاق على الجزء الأول من الجهاديين (الباحث عن جغرافيا وحاضنة شعبية)، ولكن الذين تصايحوا الآن بنصرة الجهاد في أرض الشام، واستحضروا الآيات والأحاديث التي تتحدث عن فتن آخر الزمان وأن موطنها الشام، وتكالب الأمم على الأمة الإسلامية، هؤلاء عليهم أن يفكروا.. عليهم أن يجيبوا بوضوح: من ينصرون؟!
إنهم ـ من حيث لا يشعرون – ينصرون أنظمتهم، فما أخرجهم إلا أنظمتهم. إذ أن هؤلاء لا يتحدثون إلا فيما يؤذن لهم به، وما لا يؤذن لهم به يسكتون عنه بدعوى الاستحالة أو أن السكوت أخف الضررين، أو تجنب الفتنة، أو طاعة ولي الأمر.. إلخ، المقصود أنهم في سياق الأنظمة ولا داعي للمكابرة.

إيران:
الدولة الفارسية تتعاون مع الغرب منذ خرج الأوروبين كمحتلين، وحسب روايات المحققين من أهل التاريخ فإن الصبغة "الدينية" للفارس (الرفض) أخذوها بإيعاز من الغربيين (الدولة الصفوية)، نكاية في العثمانيين وإثارة للفتنة داخل بلاد المسلمين، كما هو الحال في الكيان الصهيوني، ومع ذلك لم تنل الدولة الفارسية من الغرب خيرًا، لم تمكن منذ ظهرت إلى اليوم من دولة قوية ذات نفوذ إقليمي، فالعلاقة بين الغرب وإيران ليست على ما يرام، ولا تتمدد إيران إلا في حدود ما يخدم أهداف الغرب، وهي الآن منهكة اقتصاديًا، ووتتعرض لتحولات اجتماعية ثقافية في اتجاه ليبرالي بفعل الملايين التي وفدت على الغرب من شعبها وعادت، وبفعل الحصار الاقتصادي... وغير ذلك. المقصود أن الحرب على إيران من النظام الدولي كالحرب على غيرها، لا يراد لها –كما غيرها- أن تكون قوة مهيمنة، وإنما قوة موازية تتصارع مع البقية.
تركيا:
دولة اقتصادية بلا موارد، وطبعي أنها في حاجة لموارد طاقة ومواد خام للصناعة وفي حاجة لسوق استهلاكية، وأهميتها بالنسبة للكتلة الغربية قديمة حين كانت النقطة الأكثر تقدمًا في اتجاه السوفيت. ولذا فإنها ليست حرة الإرادة كما يظهر من تصرفات ساستها، وبسهولة يمكن ترويضها، بورقة الأقليات المقاتلة (الأكراد)، والحدود الثائرة حولها(الجماعات الإسلامية في سوريا والعراق)، والمواد الخام والسوق الاستهلاكية، ولذا فإن تركيا في المشهد تابع وليست فاعل أساسي. وخاصة بعد أن ظهر محدودية إيواء معارضة مصرية وسورية.
 
كيف يدار المشهد؟!
الأمريكان (النظام الدولي بقيادة أمريكا) يعملون – على غير العادة- بخبث، ومكر، ويستخدمون غيرهم في تحقيق هدفهم الرئيسي وما يتبعه من أهداف فرعية، فلم تعد أمريكا تتدخل بصواريخها وقواتها كما قد كان في عهد كلينتون وبوش الصغير؛ يحققون أهدافهم بإيجاد قوة متوازنة متصارعة، ويظهر بوضوح أنهم لا يريدون قوة إقليمية مهيمنة تعمل بالوكالة، وإنما يريدون قوى صغيرة متوازنة متصارعة، ولذا أعطوا مساحة للحركات الجهادية كي تؤخر المشروع الفارسي، وتهدد التكتل الخليجي الملكي وبالتالي يسهل ابتزازه، وأغروا الخليج بالحوثيين ثم اوقعوهم في صراع يستنزفهم كما فعلوا مع صدام في إيران عام 1979م؛ والآن بعد أن أنهكوا الإيرانيين، استحضروا دولة روسيا كي يؤدبونها هي الأخرى، أو كي يبقى الصراع في المنطقة ويستمر نزيف الأمة، دماءًا، وأموالًا، وآلامًا لا يعوضها شيء، وتستمر خطتهم الكبرى في إحداث تحولات جذرية في المنطقة بأداة الحرب. فالإطار العام لما يحدث هو إعادة هيكلة العالم، نخوض تغيرات جذرية بعد انتهاء الحرب الباردة كتلك التي عرفتها البشرية بعد الحرب العالمية الثانية.. النظام العالمي يعيد هيكلة نفسه من جديد، وليست أبدًا حالة ضعف في الحضارة الغربية كما يتوهم بعض المتابعين.

 
أين يقف "شيوخ السلفية"؟
من الآن فصاعدًا سيدير الغرب معركة مع الروس يستخدم فيها الحركات الجهادية، وخلفها الأنظمة العربية، وضمن الأنظمة العربية "شيوخ السلفية"!!
يأتي "السلفيون" في صحبة "نص شرعي"، حبًا في الظالمين، أو "إفادة من المتاح"، أو حقدًا على بعضهم. يحضر النص الشرعي ضد الروس لا ضد الأمريكان وهم العدو الأكبر ومحرك الفتنة الرئيسي، يحضر النص الشرعي ضد الروس لا ضد الأنظمة العربية وهي هي التي تصول وتجول ضد الإسلاميين في العراق والشام ومصر واليمن وأفريقيا (ليبيا وتونس) والمغرب العربي، وبلاد السودان. يحضر السلفيين كتابع يتواجد حين يؤذن له وحيث يؤذن له. يتواجد السلفيون في الشام بذات الهيئة التي تواجدوا بها من قبل في أفغانستان، وفي البوسنة والهرسك، وفي اليمن من يومين أو ثلاثة. قاتلنا الروس في أفغانستان والشيشان، وقاتلنا الصرب في البوسنة والهرسك وألبانيا وكوسوفا، وقاتلنا الروافض، ويحصد ثمار الحرب الأمريكان، وفتات المعركة لأولياء الأمريكان من الظالمين. يتكرر الدرس ولا نفهمه، يتلى علينا كل يوم ولا نتعظ، يقول الله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة : 126].

والعجيب أنهم لا يفكرون في الدرس، مع أنهم أهل علم وتحقيق، والعجيب أنهم يتبعون النظم الظالمة أملًا في الوصول لأهدافهم، والعجيب أن من كانوا يلعنونهم بالأمس (داعش) هم من هبوا ينصرونهم اليوم بحديثٍ عن قتال المؤمين للكافرين في أرض الشام (فتن وملاحم آخر الزمان)!!

هن لالقاء الضوء على حجم "الصحوة" في الحدث، وخاصة السلفيين. هذا حجمكم. وتزعمون أنكم تمتلكون الحقيقة كاملة، وتنتظرون خلافة بعد ساعة، تمامًا كما كان حال الصحوة حين بدأت في منتصف القرن الماضي، وانتهت الموجة يومها بإعادة تشكيل للنظام الدولي!!، ولم يفكر أحد!!، واتخذت الصحوة اتجاه آخر لم ترشد فيه لحقيقة الصراع، وبالتالي وقف جملتها ضمن صفوف عدوها من حيث لا يشعرون. وتغير ميزان القوى.. وإفساد اللعبة الأمريكية يمكن بإدخال متغير جديد في الحدث، وهو الجماهير، وخاصة هذه الأيام، فالجماهير تفسد الوضع على الأنظمة الحاكمة وبالتالي على الغرب والشمال، وعامة الجماهير مع الخطاب الديني ومع القدوة الدينية الصالحة المصلحة.إطار العمل السلفي يحتاج لإعادة نظر. ليس من الرشد. بل ليس من الإيمان أن نلدغ من جحر مئات المرات ثم لا نتوب ولا نتذكر.
محمد جلال القصاص 
3أكتوبر 2015