التبرع للبحث والتطوير أين أنتم يا أصحاب الثروات

وهل سنرى في يوم من الأيام مؤسسات متخصصة لمثل هذه الأعمال يكون لها مجلس أمناء يقوم باستثمار التبرعات وصرف الأرباح على فعل الخير؟

  • التصنيفات: الواقع المعاصر - طلب العلم -

تحدثت في مقالي السابق عن الموقع الإلكتروني (جاي ستور) والفائدة العظيمة التي يوفرها وذكرت أن المشروع كان ثمرة تبرع خيري من مؤسسة أندرودبليوميلون الخاصة. وأندروميلون كان رجل أعمال أمريكياً ووزيراً للخزانة من 1921 إلى 1932م وقبيل وفاته قام بالعديد من التبرعات الخيرية ومن ثم قام ابناه "بول" و"إليسا" مستخدمين الثروة التي خلفها والدهما بإنشاء هذه المؤسسة في عام 1969م وتهتم مؤسسته بالتعليم العالي والمكتبات والمتاحف والفنون والحفاظ على البيئة وتمويل الأبحاث. ويبلغ وقف "مؤسسة ميلون" 5.6 مليارات دولار وتبرعاتها السنوية في حدود 210 ملايين دولار.

وهناك أمثلة كثيرة مشابهة لميلون مثل " جون روكفلر" إمبراطور النفط الأمريكي ومؤسس شركة ستاندرد أويل وأول شخص في العالم تبلغ ثروته مليار دولار. منذ أول راتب له تبرع روكفلر بـ 10% منه لكنيسته وبازدياد ثروته ازداد حجم تبرعاته حتى وصلت إلى 80 مليون دولار تبرع بها لجامعة شيكاغو محولاً إياها من كلية معمدانية إلى جامعة عالمية في 1900م واليوم يوجد 81 شخصاً حاصلين على جائزة نوبل لهم ارتباط بهذه الجامعة سواء كانوا طلبة بها أو أساتذة أو باحثين.

في عام 1902م تبرع روكفلر لإنشاء "معهد روكفلر للأبحاث الطبية" بنيويورك والتي لاحقاً تحولت إلى جامعة روكفلر في عام 1965م والتي لها ارتباط بـ 23 عالماً حائزين على جائزة نوبل. بوفاة روكفلر في عام 1937م كان مجموع تبرعاته في هذا المجال حوالي 550 مليون دولار في ذاك الزمن وقد أكملت ذريته المسيرة عن طريق "مؤسسة روكفلر" لقد عمل روكفلر بالمبدأ الذي طرحه أمير الشعراء في البيت:

دقات قلب المرء قائلة له *** إن الحيـاة دقـائق وثواني
فاصنع لنفسـك ذكرهــا *** إن الذكر للإنسان عمر ثان

لقد تأثر روكفلر بـ "أندروكارنيجي" (رجل الأعمال والصناعة الأمريكي وأحد أكثر الأشخاص ثراء على مر التاريخ ومؤسس شركة الحديد الشهيرة التي عرفت لاحقاً بـ "يوإس ستييل"). كتب كارنيجي مقالاً بعنوان "إنجيل الثروة" وفيه قال: "ليس اليوم ببعيد عندما يموت الرجل ويترك خلفه الملايين من الثروة المتاحة والتي كان بإمكانه أن يديرها خلال حياته، سوف تذهب بغير رثاء، بغير شرف، بغير معنى". وقد أثرت هذه المقالة جداً على روكفلر في عام 1889م حيث بعث برسالة إلى كارنيجي كتب فيها: "أتمنى أن أصحاب الثروات كانوا يفعلون بأموالهم ما تقوم أنت بفعله، ولكن اطمئن، فإن المثال الذي صنعته سوف يثمر وسوف يأتي الوقت الذي يكون فيه أصحاب الثروات على استعداد لاستخدام ثرواتهم في منفعة الغير". وفي نفس العام بدأ روكفلر أعماله الخيرية والتي تضمنت في عام 1903م إنشاء مجلس التعليم العام بتكلفة 129 مليون دولار والهادفة لتعزيز ودفع التعليم بغض النظر عن الجنس أو العرق أو العقيدة في الوقت الذي كانت فيه أمريكا ترزح تحت التفرقة العنصرية. وفي عام 1913 قام بإنشاء "مؤسسة روكفلر" والتي وهبت 14 مليار دولار للآلاف من المستفيدين حول العالم.

أندروكارنيجي نفسه والمولود في عام 1835م كان أحد أكثر المهتمين بالأعمال الإنسانية، فبعد حياة أعمال ناجحة قرر إبان تقاعده مع بداية القرن العشرين التفرغ لأعمال الخير والتي رأى أنها واجب على أصحاب الثروات لدرجة أنه في عام 1898م عندما قامت الولايات المتحدة بشراء مستعمرة الفلبين من إسبانيا بمبلغ 20 مليون دولار قام هو بعرض هذا المبلغ على الفلبين كهبة ليشتروا استقلالهم بها من إسبانيا.

كارنيجي كغيره كان من المؤمنين بأن التعليم هو العمود الفقري لحياة الأمم وقد قام بتمويل بناء 3000 مكتبة في 47 ولاية أمريكية كما قام بإنشاء "معهد كارنيجي للعلوم" بواشنطن و"معهد كارنيجي للتكنولوجيا" في بطرسبرج في عام 1902م. والذي اندمج لاحقاً في عام 1967م بـ "معهد ميلون للأبحاث الصناعية" والذي أسسه "أندرووريتشارد ميلون" في عام 1913م ليصبحا "جامعة كارنيجي ميلون" والتي لديها إلى اليوم ارتباط بـ 13 شخصاً حائزاً على جائزة نوبل.

في عام 1905م قام بإنشاء "مؤسسة كارنيجي للارتقاء بالتدريس" والتي هدفت لتحفيز وتبجيل وارتقاء مهنة التدريس والتعليم العالي. لقد كان كارنيجي مهتماً في الأساس بأمرين: السلام العالمي وتطوير حقل التعليم والمعرفة. وقد قام في عام 1910م بتأسيس وقف "مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي" وهي مؤسسة لا تهدف إلى الربح ككل المؤسسات السابقة وإنما هدفها الدفع بالسلام العالمي إلى الأمام والتعاون بين مختلف الدول. وهذه المؤسسة هي إحدى أكثر المؤسسات السياسية احتراما وتلقى اهتماما كبيراً من أساتذة العلوم السياسية وطلبتها نظراً للمقالات والأبحاث الجيدة التي تقوم بنشرها إضافة لكونها ناشر مجلة "السياسة الخارجية" ذائعة الصيت. في المجموع أسس كارنيجي أكثر من 20 مؤسسة إنسانية خلال حياته وصرف ما يقارب 350 مليون دولار في ذلك الزمن.

اليوم "مؤسسة كارنيجي في نيويورك" لديها ضمن برنامجها الدولي "مبادرة الإسلام" والتي تهدف لتصحيح المفاهيم الخاطئة عن الإسلام في الغرب والمرتبطة بالإرهاب وذلك عن طريق زيادة التوعية بالإسلام ومجتمعاته ودوله وكذلك دفع التواصل بين الخبراء عن الإسلام ومجتمع السياسة والإعلام.

تشارلز برات كان أحد الأمثلة الأخرى فهو رجل أعمال ورائد في صناعة البترول وقد شعر بالحاجة لعمال مهرة في الفترة التي شهد الاقتصاد الأمريكي فيها تغيراً هائلاً فأنشأ في عام 1886م معهد برات والذي أصبح اليوم جامعة مهتمة في المقام الأول بتعليم الطلبة حرفة استخدام يدهم فأصبحت إحدى الجامعات الرائدة في تعليم العمارة والتصميم الصناعي وهندسة الديكور إضافة إلى كل الدراسات المتعلقة بالتصميم والفنون الجميلة. وتكثر الأمثلة في سياق هذا الموضوع فإدسل فورد (نجل مؤسس شركة فورد للسيارات أنشأ "مؤسسة فورد" الخيرية والتي تبلغ أصولها اليوم 13.7 مليار دولار وحجم تبرعاتها 530 مليون دولار سنويا)ً. يذكر أن كلاً من الجامعات آنفة الذكر معتمد وموصى بها من قبل وزارة التعليم العالي.

وهذا التوجه العام لصرف الثروات في أعمال البر والإنسانية أصبح سمة متكررة نراها في المجتمع الأمريكي فكل من "بيل جيتس" -صاحب شركة مايكروسوفت وثالث أغنى رجل في العالم- و"وارن بافيت" -رجل الأعمال الأمريكي أغنى رجل في العالم- قام كلاهما بمنح ثرواتهما من أجل الأعمال الخيرية فجيتس أوقف حوالي 29 مليار دولار بتأسيسه "مؤسسة بيل وميلندا جيتس" والتي تبرع لها بافيت بـ 30.7 مليار دولار.

هذه المؤسسات تعمل بنظام الوقف، فصاحب الثروة يقوم بوقف المال لصالح الخير العام وتحديد أوجه الصرف فيها سواء كانت تعليماً أو محاربة للفقر ومن ثم يتم اختيار مجموعة من أهل الثقة كي يشكلوا مجلساً للأمناء يشرف على عمل هذه المؤسسة ومجلساً للإدارة يضم خبراء ماليين يشرفون على استثمار هذه الأموال لضمان استمرارية العمل الصالح وكل هذه المؤسسات لا تهدف إلى الربح حيث يتم صرف كل الأرباح في أوجهها الخيرية.

أغلب هذه المؤسسات تقوم بمنح تبرعاتها للعديد من الدول البائسة والتي للأسف تتضمن الكثير من الدول الإسلامية. فهل هؤلاء الأشخاص أكثر إسلاماً منّا نحن المسلمين؟ كذلك فالكثير من المنح تذهب لدعم الإنسانية كبناء المساكن ومحاربة الفقر.. فهل تكفي الزكاة في سد حاجات أمتنا من هذه الأفعال؟ أم أننا بحاجة للمزيد؟

قد يقول البعض أين العرب من كل هذا، وإن أصحاب الكروش في راحة. وهل سنرى في يوم من الأيام مؤسسات متخصصة لمثل هذه الأعمال يكون لها مجلس أمناء يقوم باستثمار التبرعات وصرف الأرباح على فعل الخير؟
لقد كنت سعيداً جداً بحصول الأستاذ محمد عبد اللطيف جميل على وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى تقديرا لأعماله الخيرية والإنسانية فنحن في عالمنا العربي والإسلامي لدينا أيضا أمثلتنا وإن كانت قليلة وما بدأه الشيخ جميل هو سابقة خير وشرارة أتمنى أن تستمر وتكبر وأنا هنا أضع فكرة مشروع مشابه لـ "جاي ستور" والتي طرحتها في مقالي السابق أمامه وأمام كل من يسعى لخدمة المجتمع بأموالهم لما لهذه الفكرة من فائدة عظيمة لا لهذا الجيل فقط ولكن لكل الأجيال حيث إن العلم والبحث والتطوير هما عماد التقدم ولا يرجى أي مستقبل بدونهما.

 

المركز الدولي للأبحاث