علَّمَتني قطرةُ نَدَى... ودُعسُوقة!
أسماء محمد لبيب
- التصنيفات: دعوة المسلمين -
وتراصَّتْ حبَّاتُ اللؤلؤِ المكنونِ ببلوراتهِ اللجينيةِ الشفافة، مع أول أنفاسِ الفجر العذبة... وانتشرتْ حتى كَسَتْ كلَّ شيء..
تجاورَتْ بشكلٍ عفوىٍّ بَيْدَ أنّهُ مُنظَّمٌ! فوق صفحةِ البُسُطِ المخمليَّةِ الخضراءِ، المتدليةِ من فروعِ شجرةِ عتيقةِ بأصلها الثابتِ العنيدِ، شامخةٍ بأغصانها الممتدةِ صوبَ قلبِ السماءِ في حِلمٍ ووداعة، كأبٍ رَحيمٍ ينادي أطفالَهُ نحو حنانِ أذرُعِهِ..
وأخَذَتْ تلكَ القطراتُ الفاتناتُ تعكسُ كالمرايا البرَّاقةِ كلَّ هنيهةٍ على صفحتها بدقةٍ بالغةِ الوضوحِ تفاصيلَ الحياةِ المتحركةِ مِن حولِها...
وانتظمَتْ ثمراتُ التّوتِ القُرمزيةِ، معلنةً بمظهرها المرتّبِ بإحكامٍ، أنَّ للكونِ نَظْمٌ لا يُخطِئُ مَدارَهُ، ولا يصنعُهُ إلا إلهٌ واحدٌ أحدُ، قد أبدعَ صبغَتَهُ بإحكام..
وأُمطِرَتِ اللوحةُ النديَّةُ أمامي زقزقاتِ طيرٍ لا تعرفُ همًا ولا غمًّا...
تُحسِنُ التَّوَكُّلَ رُغمَ غُدُوِّها خِماصًا..
قد غادرَتْ لتوِّها عُشَّ السكينةِ والدَّعَةِ واستقرَّتْ بدلالٍ فوقَ أغصانِ شجرِ الجُورِيِّ والياسَمين الفواح..
تتبادلُ فيما بينها بسعادةٍ تحيةَ الصباحِ الرائقة.. وتتمايلُ بشدوِها فوق عيدانِ الشجرِ الدقيقة..
فاهتزَّتْ الفُروعُ بضيوفها...
فارتَجَّتْ الزهراتُ بدورها بساكِنيها... ورجرجَتْ المسكَ القابعَ في كفوفِ البَتلات... فَفاحَ..
فالتقطهُ النّسيمُ المتلألئُ بشعاعِ التِّبرِ الوهَّاجِ، وهَرولَ مُسرعًا يتلقَّفُ الطِّيبَ الحبيبَ من كل شجرةٍ ونبتةٍ أفاضت من ريحِها طوعا...
حاملًا على عاتقهِ عُطورَ حقولٍ شتَّى، تُزَاحِمُ باقتدارٍ أرقَي قواريرَ العطرِ الفرنسية،
وتتسللُ كلها إلى حواسِّكَ مجتمعةٍ... فيشُمها القلبُ والعينُ قبل أن تَسكُنَ رئتاكَ وتُسَكِّنَها!...
وتَنَادَتِ الفراشاتُ في فضاءِ الأفقِ لتأتيَ من بعيدٍ تضربُ الهواءَ كالطَّيرِ صافاتٍ ويقبضْنْ..
بأجنحتها متناهيةِ الرِّقةِ والحُسنِ والدلال، متماهيةِ التفاصيل والنقوش والألوان..
وعلى الأرضِ... تهادَتْ دعسوقةٌ أنيقةُ الحالِ والحُلَّة..
تحملُ على كُلّ غِمْدٍ من جناحيها الأرجوانيين المُرقَّطَينِ نِقاطًا سوداءَ قد نُقِشَتْ باتساقٍ مُذهلٍ في دِقتِه ولا يُضاهَى..
وتبِعتْها قريناتُها الأنيقاتُ أمامي تَتْرَى...
تَضربُ الأرضَ بين سيقان العُشبِ الأخضرِ المبلَّلِ بماءٍ طهورٍ حديث عهدٍ بربِّه، ومُزَيَّنٍ بندَى البكورِ آنف الذِّكر كذلك...
تدُقُّ مَمشاها بأقدامها وتُسبّح بكل خطوةٍ ذا القوةِ والملكوتِ والكبرياءِ..
قد نشِطَتْ في قَطفِ رزقِ الرزَّاقِ من أرضهِ الواسعةِ وتُربَتِه الرحيبةِ وجُودِهِ السَّرمدِي..
وَكأنما تناديني أن هَلُمِّي علَى إِثري يابْنتي، أُعلمْكِ ضُروبَ الرضا وفنونَ السعادةِ وصنوفَ النشاطِ ومفاتيحَ نَفْضِ العَجزِ عن الجوارح..
فتوارت الكأبةُ خَجْلَى وراءَ الغيومِ القاصيةِ هناك.. تبحثُ عن مأوىً لها جديد، يقِيها نارَ التفاؤلِ وجَذوةَ السعادةِ ولهيبَ الانشراح...
ولحقَها اليأسُ يائسًا فارًا بأنيابهِ المسنونةِ ومقاريضِهِ الضارية...
قاطعًا الرّجاءَ في نيلِ نهمتِهِ مِنّي اليوم... فأكل بعضُهُ بعضا..
أيا كآبةُ.. ويا يأسُ.. هيهاتَ لمأوًى لكُما اليومَ عِندي.. لأُيَئِسَنَّكُما من تسويدِ تفاؤلِي، أو زلزلةِ رضائِي عن الله...
فالصباحُ مُكتسحٌ في بِشرِه وصفائه.. يذوبُ أمامَه كلُّ كَدَرٍ...
ويجددُ الإيمانَ ويجلو صدأَ الهِمَمِ ويمحو رانَ الأفئدةِ بإذن عليمٍ قديرٍ حكيم...
والطبيعةُ الغضّةُ أعظمُ مَدرسةٍ إيمانية... تُلقِّنُكَ براهينَ الوَحدانيةِ والربوبيةِ والألوهيةِ من كتابٍ واحدٍ لا يَخلَقُ على كَثرةِ المطالعة.. كتابُ اللهِ المنظور..
فيَنبتُ في طُرُقاتها القلبُ حيًّا من جديد..
مُشْبَعًا بالأملِ والبِشْر.. مُفعَمًا بالهِمةِ والحماسِ..
مَرويًّا بالصَّبرِ والجَلَد على مواصلةِ المسيرِ فوق مَعبر الدنيا المُوحِشة... والمؤقتة..
أجملُ نسمات تلك التي في الفجر... بالله..
وما أبهى البكور.. لو ندري..