المشروع الإسلامي بين مجهر الراصدين وتقاعس المتصدرين
محمد بوقنطار
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
لا شك أن من تتبع مسار عملية الإدماج التي من خلالها حشر الإسلاميون في فترة عصيبة من فترات السيرورة التاريخية للأمة ليمروا عبر عنق الزجاجة وليجتازوا الجسور الحداثية والمناخل الديموقراطية، وليصلوا إلى مراكز القرار السياسي في بعض بؤر التوتر من الوطن العربي الكبير، أو في غيرها ممن لم تلامس دثار أمنها الداخلي ثورات ما سمي بالربيع العربي كالمغرب نموذجا،
لابد له أن يقف على أن هذا المدمج قد فقد بوصلة الصوب الذي رفع شعار الانتصار له والذي من خلاله قاد جمهرة من الذين بلغوا مرحلة اليأس من الوعد السياسي ومن صناديق الاقتراع وصناعة الزعامات المحلية التي أذاقت المصوت ألوانا من العذاب واللصوصية والوصاية المستبدة حينا من الدهر غير قصير، قادهم إلى معانقة الوعود في ثوب جديد حصلت في مقاسه الفضفاض مصالحة تاريخية سرعان ما تلتها في مرحلة لاحقة عملية تحيين الميوعة واللؤم الذي كان سائدا من ذي قبل ليتبين أن الانحناءة قيدت بزمنها ثم استعادت الهامة انتصابها ووقوفها المعهود.
بل سيقف على أن هذا المدمج قد ضيّع حتى الأمل في استثمار الممكن والمتاح الذي كان قد وضعه كمرحلة أولية في أجندة ترتيباته أملتها ضرورة الانتقال السياسي كاستثناء يمكن عبره ومن خلال وضع الرجل على درجه استشراف الوصول إلى المنشود أصالة الذي هو مشروع وجوده أو على أقل دعواه وزعمه الأساس مشروع «الإسلام هو الحل».
لينقلب الشعار في جوف أصحابه إلى شعار «إسلام بغير خوف» الذي هو في حقيقته وواقع أمره «إسلام بغير ملامح» أو «إسلام بغير إسلام»، وهو الشعار الذي جاء مضمونه خادما ومهرولا في مسعى نشر قيم الغرب الليبرالية ولابد هنا من استحضار بعض أمنيات مؤسسات الغرب للدراسات الإستراتيجية ذات الوصايا النافذة والقرارات المتنفذة والتي كانت قد دعت إلى بناء شبكات معتدلة والسماح لها بولوج العملية السياسية، وطبعا لابد أن تكون لصفة الاعتدال ولمأذونية السماح ضوابط وحدود ومواصفات وقوالب مسكوكة غير قابلة للنقاش أو الاستدراك من جهات حقل التجريب والنموذجية.
ولا شك أن المستيقن بوعد الله تعالى لا يمكنه الخوف على دينه أو سمعة إسلامه إذ أمره هنا معلوم علم اليقين أنه محفوظ الشعيرة والشريعة، فالخوف إن وجد فلن يكون إلا على هذا الجيل الذي تبنى شعار «الإسلام هو الحل»، بينما هو جيل ظل يكتم أنفاسه ويحفظ حقيقة علمانيته بين أضلع إطاره التنظيمي لا بنود وقواعد التأسيس وما تلاها من صرخات الاستهلال الأول.
والحقيقة أنه جيل لا يمكننا تورية ما عاناه ويعانيه من ضغوط وإكراهات لم يبلغ حرجها نصاب الاعتبار الشرعي ولا منزلة الإكراه المادي أو المعنوي الذي يمكن أن ينفي عنه حقيقة اختياره الحر والمسؤول عن تسجيل اسمه ورسمه في عملية المقايضة واستبدال الأدنى بالذي هو خير بين كفتي سراب تمكين والقبول به كمكون ووافد جديد على المشهد السياسي العربي الإسلامي ومن ثم اللعب بورقته في أروقة صناعة القرار الإقليمي والاستفادة من وجوده حتى حين، وجود من شأنه أن يمتص الفوضى والعبث الشعبي ويحفظ للبلاد بيضة تماسكها وتوازنها وصحتها السياسية بأدنى الخسائر أو عدمها من جهة، ومن جهة أخرى بالتفريط في إمكانية فرض رؤيته وتمرير مشروع حكامته.
ولا شك أن لإثبات حالة الانفكاك بين جيل هذه التجربة وبين معالم مشروع الحكم الإسلامي الراشد أهمية بالغة من جهة تبديد الخوف أو الفزع من سحب تهمة الفشل كما على الحكومة الإسلامية على الحكم الإسلامي الذي مفزعه من ناحية التأصيل إلى الدليل الشرعي وما راكمته تجربة مرحلة النبوة وما تلاها من حكم راشد وخلافة على منهاج النبوة.
ولعل ثمة فرق بل فروق عند الكلام عن الفشل وعدم الفاعلية بين تجربة حكومة التناوب الاشتراكية الأنفاس؛ وبين تجربة حكومة بن كيران وإخوانه «شبه الإسلامية»؛ من جهة أن فشل الأولى هو فشل أملته أخطاء تبني مرجعية وأيديولوجية ماتت في مسقط الرأس بعدما أحالت تقنياتها تقنيات «السفخوزات والكلخوزات» وتربيب الطبقة العاملة «البروليتاريا» روسيا القوية إلى مصاف كيانات الارتزاق والتسول والفقر المدقع، كما يعود الفشل إلى أن السادة الاشتراكيين المغاربة لم يكونوا يساريين إلا من جهة وجهة نظرهم في الدين الذي لازمته في وجدانهم صفة الأفيونية، أما فعلهم السياسي فقد كان سلوكا إقطاعيا بامتياز ومركنتيليا باع ببدعة «الخوصصة» كل أخضر ويابس ليعيد الاستعمار في وجه غير سافر وليمكن للرأسمال الأمبريالي من رقاب المغاربة في مجالات الماء والكهرباء والدواء والغذاء ولو كان يملك حق بيع الهواء لما توانى عن بيعه دقيقة.
ولذلك يمكن القول هنا أن الفشل صنعته النظرية ورواد تطبيقها معا، وهذا ما لا يمكن أن يكون في حالة التجربة شبه الإسلامية حيث بقيت أنفاس الشرع السياسية خارج السياق إلى الحد الذي صار معه هذا الدين عند من رفع شعاره في مقاربة الحل معرّة واستحال الكلام عن تطبيقه ولو بالاجتزاء سرابا حسبته الجماهير المصوتة ماء لكنها في ساعة المجيء لم تجده شيئا.
ولنا أن نتساءل في وجه المستدرك عن ملحظ إسلامية التوجه الحكومي الذي نملك من المعطيات الملموسة لمس اليد ما يدفعنا إلى الإقرار في غير تردد أنه لا التوحيد صان ولا الحاكمية الإسلامية مارس، ولربما تبنت في مرحلة فصامها عملية الاستفهام عن أي إسلام نبغيه وننادي بتطبيقه؟
أكان الإسلام السني أم الشيعي؟
إسلام السلفية أم الصوفية؟
إسلام الأشاعرة أم إسلام الظاهرية؟
إسلام المرجئة أم إسلام الخوارج؟
ناسية أو متناسية مع سيل المعطوفات أنها كانت دائما وهي تتأبط مشروعها مشروع «الإسلام هو الحل» متى ما سئلت عين الأسئلة أجابت لا هذا ولا ذلك وإنما هو إسلام الوحي المنزل على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
والحقيقة أنها وكما بلغت من الأشد ما جعلها في غير ما مناسبة تتبرأ من الدين في دائرة التصرف السياسي، وتكشف في غير روية ولا تحرير ولا خوف عن علمانيتها، فللجماهير الحق في أن يتسع روعها لحقيقة مفادها أن هذه الأحزاب السياسية الإسلامية هي كيانات ليست بالعفوية؛ لا تمنع صلاة أعضاءها ولا حجهم ولا صومهم ولا حجاب كوادرهم النسوية من تبني الطرح العلماني وإيثاره والدفاع عنه وطأطأة الرأس لسيادته وصناعة التمكين لسياسته، كما لها الحق وهي تقف على شفا جحر صناديق الاقتراع أن تعيد النظر في فتوى الأصلح، إذ الأصلح لا يكون إلا في دائرة الفضل والصلاح، أما خارجها فلا مسوغ للمقارنة وإنما يصدق في باب الاختيار قول الشاعر العربي:
قال أصيحابي الفرار أو الردى***فقلت هما أمران أحلاهما مر.