عبرة عند وداع حبيب عند القبر

ممدوح إسماعيل

  • التصنيفات: موضوعات متنوعة -

في أحد ليال شهر رمضان المبارك جاءني خبر وفاة إحدى قريباتي وأنها توفيت قبل الإفطار وسرعان ما ذهب تفكيري سريعًا لزوجها فهو صديقي وأعلم أن المصيبة شديدة عليه فالعائلة كلها تعرف كم هي قصة الحب التي جمعت بينهما فهما جيران في بيتين متلاصقين تمت خطبتهما وهما في الثانوية وتمَّ العقد عند دخولهما الجامعة وأخذا الإثنان يجهزان بيتهما مع بعضهما البعض سنوات وقد صبرا على معوقات ومشاكل كثيرة حتى تمَّ البناء وتزوجا.

وفى الصباح ذهبت إلى الجنازة ورأيت الزوج المكلوم، ورأيت في عينه كل أنواع الحزن الذي في العالم، وكانت دموعه لا تتوقف بدون كلام فاحتضنته واحتضني بشدة فنحن لم نتقابل منذ فترة لبعد المسافات والمشاغل…. ثم ذهبنا إلى المسجد لصلاة الجنازة فلم يستطع الزوج أن يصلِّى عليها أو حتى يقترب من النعش فقد صلَّى بعيدا في أواخر الصفوف وحملنا الميتة وذهبنا لدفنها، وقد أصر الزوج على دفنها في مقبرته مع أمه التي توفيت من شهرين وعند المقابر حدث ما كنت أتوقعه، ولكني لم أشاهده وأسمعه في حياتي إلاَّ في هذه المرة فقد وقف الزوج المكلوم وأنا بجانبه على باب القبر يناجى زوجته بصوت خفيض ولكنه مسموع للجميع بسبب صمت القبور الرهيب، انطلقت الكلمات منه مصحوبة بأنهار من الدموع الصامتة التي لا تتوقف حيث قال لزوجته وهم يدخلونها القبر حبيبتي تتركيني.. أنا حبيبك "على" تتركيني وحيدا.. مع السلامة يا حبيبتي.. في رحمة الله يا أجمل حبيبة وأرق حبيبة.. يا أحب من كان لي في الدنيا مع السلامة.. يا روحي مع السلامة.. يا قلبي مع السلامة.. سأظل أحبك يا حبيبتي.. وهنا لم أستطع تمالك دموعي التي تسللت إلى وجهي تعلن ضعفي فقد تذكرت أحبابي الذين فارقوني ولم أستطع توديعهم وتذكرت أحبابي الذين ودعتهم ووقفت على قبرهم وقلبى ينفطر من شدة الحزن على فراقهم فضممت علي إلى صدري وقلت له: يا علي قل لا إله إلاَّ الله فرمى علي رأسه على صدري ثم قال: يا أمي ضُمِّي حبيبتي إلى صدرك لا تتركيها وحدها. فقلت له: يا علي قل لا إله إلاَّ الله. فقال علي لا إله إلاَّ الله يا حبيبتي تتركينى.. أتركك إلى رحمة الله.. يا حبيبتى لم أفطر منذ الأمس لأنك لم تفطري معي. فقلت له وأنا أغالب دموعي: يا علي قل لا إله إلاَّ الله. فقال علي لا إله إلاَّ الله يا رب شفِّع الصيام في حبيبتى.. يا رب شفِّع الصيام في حبيبتي.. فقد كنا صائمين.. يا رب تعلم كَمْ كنت أحبها وتحبني صبرني يارب.. صبِّرني يارب.. يا حبيبتي إلى رحمة الله أتركك.. يا حبيبتي نوَّر الله قبرك بالصيام.. يا حبيبتي نوَّر الله قبرك برحمته.. يا حبيبتي تتركيني وحيدا مع السلامة يا حبيبتي.. فأخذت أضمّه لصدري كي يسكت فقد كدت أن أنهار وأنا الذي رأيت من المصائب الكثير ونظرت حولي فوجدت الوجوه كلها باكية وتذكرت حديث جبريل للنبي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم «يا محمد أحبب من شئت فانك مفارقه». نعم إنها الحقيقة الخالدة الموت مُفرِّق الأحباب..

ربما يظن القارئ أن علي شاب صغير لا فهو رجل عمره فوق الخمسين وقد مرَّ على زواجهم ما يقرب من ثلاثين عامًا، وقد كتبت هذا الواقعة الحزينة بكل ما فيها أولاً: للخروج من لهو الدنيا ومشاغلها ومفاتنها والغرور بزينتها ثانيًا للتذكرة بالموت الذي يفرِّق بين الأحبة وحتى نتعظ وننهض إلى طاعة الله ونصلِّى صلاة مودِّع حقًا لعل الله يرحمنا، فالعبد لا يدرى متى يأتيه الموت.. ثالثًا لنتعلَّم ونتذكر قيمة الوفاء في زمن قلَّ أو ندر فيه الوفاء، فالعلاقات الزوجية أصبحت متوترة متقلبة بسبب ما حدث من تغيرات كثيرة في الحياة، أما "علي" فقد أحب زوجته ما يقرب من أربعين عامًا، ولكن الحب لم يمنع الموت وكان في وداعها عاشق محب صغير السن، مازال الحب في قلبه لم يخبو وهو رجل مسلم يعرف ربَّه، فما أعظم أن يحب الرجل زوجته وتحبه زوجته، وقد أحبَّ الحبيب محمد صلَّى الله عليه وسلَّم السيدة خديجة رضي الله عنها ولما توفيت حزن عليها حزنًا شديدًا حتى سمي العام الذي توفيت فيه عام الحزن… وأخيرًا لا تنسوني من صالح دعائكم عامة وبحسن الخاتمة خاصة وفقني الله وإياكم إلى طاعته ورضاه.


ممدوح اسماعيل محام وكاتب
[email protected]





 

المصدر: طريق الإسلام