أنا فلانة.. وأم فلان.. وأفتخر!
أسماء محمد لبيب
نشرت إحدى الداعيات الفضليات منشورًا قصيرًا عن "الكنية" تحفيزًا للنساء المسلمات على تجنبها لما تلمسه تلك الداعية الفاضلة من مساوئ لهذا الأمر، ولكن للأسف، هذا المنشور حاذى الصواب وجانبه في أمور عدة، ولا تغني النوايا الطيبة لكاتبتنا عن إيضاحي لتلك الأمور لاصطدامها بصحيح السيرة النبوية.
- التصنيفات: قضايا المرأة المسلمة -
نشرت إحدى الداعيات الفضليات منشورًا قصيرًا عن "الكنية" تحفيزًا للنساء المسلمات على تجنبها لما تلمسه تلك الداعية الفاضلة من مساوئ لهذا الأمر.
الهدف الأصلي من المقالة تلك بشكل خاص ومن خط أختنا الداعية تلك بشكل عام في الكتابات الدعوية؛ هو إنصاف النساء المسلمات وتعريفهن بحقوقهن المهدرة بفعل عادات وتقاليد مجتمعية شرقية قد أعلاها المجتمع بكل أسف فوق أحكام الشريعة النقية وفوق عدلها المطلق، فضيقوا على النساء واسعًا وقلصوا عليهن رحابة ما يرتعن فيه من تكريم وإجلال في واحة الإسلام الوارفة، ظلمًا وقهرًا وجهلًا منهم.
وأنا أحترم جدًا رغبة تلك الداعية الفاضلة في تعليم نساء المسلمات من خلال مقالتها، ألا يستترن بأسمائهن خجلًا وراء الكنية وألا يتحرجن من إعلان أسمائهن الحقيقية أمام الجميع فهي ليست بعورة بالفعل، وأُثَمن جدًا آخر سطر في مقالها والذي قالت فيه أن لكل امرئ الحق في أن ينادى عليه بالاسم الذي يحب، فهذا بالفعل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ووصاياه للمسلمين لتأليف القلوب.
ولكن للأسف، هذا المنشور حاذى الصواب وجانبه في أمور عدة، ولا تغني النوايا الطيبة لكاتبتنا عن إيضاحي لتلك الأمور لاصطدامها بصحيح السيرة النبوية، والتي كان أبرزها ست نقاط:
1- المقالة للأسف أنكرت واستبعدت أن التكني سنة، لمجرد عدم وصول أي حديث نبوي إلى علم الكاتبة ينادي فيه الرسول على عائشة بكنيتها! في حين أن التكني سنة بالفعل، بل سنة مهجورة نؤجر إن شاء الله إن نحن أحييناها، ومن آداب الإسلام التي تميزنا بها عن باقي الأمم كما قال الشيخ الألباني: "وهذا أدب إسلامي ليس له نظير عند الأمم الأخرى -فيما أعلم- فعلى المسلمين أن يتمسكوا به رجالاً ونساء، ويَدَعوا (يتركوا) ما تسرب إليهم من عادات الأعاجم كـ (البيك) و(الأفندي) و(الباشا) ونحو ذلك، كـ (المسيو) و(السيدة) و(الآنسة) إذ كل ذلك دخيل في الإسلام"، وقد تكنى النبي صلى الله عليه وسلم وكنى بعض أصحابه كما سيأتي ذكره.
2- المقالة أنكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم له كنية، أو على أقل تقدير أعطت انطباعًا للقارئ بهذا عن طريق القول بـ "أن النبي قدوتنا لم يناديه أحد بالكنية"، في حين أن له كنيتان وليست واحدة فحسب،الأولى "أبو القاسم"، كني بها نسبة إلى ولده القاسم الذي أنجبه قبل النبوة وتوفي، والثانية هي "أبو إبراهيم" والتي كناه بها سيدنا جبريل رئيس الملائكة والموكل بالوحي الإلهي.
3- المقالة أعطت انطباعًا للقارئ بأن سيدنا الفاروق وعلي وعثمان والصديق والصحابة عمومًا وكذلك الصحابيات، كلهم قد تركوا الكنية حيث قالت الكاتبة "كلهم احتفظوا بأسمائهم"، وكأن الكنية والاسم لا يجتمعان! وكأن تواجد الاسم ينفي تواجد الكنية! واستطردت بأنه لو كان خيرًا لسبقونا إليه! بلى، كلهم لهم كنى وكانوا ينادَون بها بجانب أسمائهم، وهم بالفعل سبقونا لهذا الخير فلنقتفي أثرهم، بل منهم من استبدل باسمه الكنية بشكل كامل تقريبًا مثل الصديق يكنى بـ "أبو بكر" فسيدنا أبو بكر اسمه في الأصل هو "عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة"، و" أبو بكر" كنيته، و"الصدّيق" لقب له، و"أمهات المؤمنين" هي كنية لهن جميعًا، وكان الصحابة يخاطبون إحداهن بها "يا أم المؤمنين"، بل والنبي ذاته صلى الله عليه وسلم قال أمام الناس كلها: « » ولم يقل عائشة في هذا الموضع، سيقول قائل هذه ليست كنية وإنما تثبيت لحكم شرعي بحرمة أمهات المؤمنين، أقول: وماذا نفعل بـ "أم سلمة" و"أم أنس"!؟ وأبي عمير (صاحب النغير)، وأبي الدرداء وزوجته أم الدرداء الكبرى، وأبي هريرة، وربح البيع "أبا يحيى" ربح البيع!
وكيف توحي لنا المقالة بأن سيدنا علي ترك كنيته مؤثرًا الاحتفاظ باسمه الأصلي، وهو له كنية بالفعل ويحبها جدًا، فلها قصة رائعة في صحيح البخاري ومسلم يقشعر لها بدني وأكاد أبكي كلما قرأتها، ألا وهي كنية "أبو تراب"، وقصتها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وسيدنا علي مضطجع في المسجد قد سقط رداؤه عن شقه (عن جنبه) وأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه ويقول: "قم أبا تراب" وصارت تلك أحب الكنى إليه رضي الله عنه.
وكيف توحي لنا المقالة كذلك بأن سيدنا عمر احتفظ باسمه دون كنيته، وهو المكنى بأبي حفص! وكذلك الحال بالنسبة لسيدنا عثمان، فله ثلاث كنيات كني بهن في الجاهلية وبعد الجاهلية! كني أولًا بأبي عمرو، ثم بعد الإسلام ولد له من رقية غلامًا سمي عبد الله فكني بأبي عبد الله، وكان يكنى بأبي ليلى أيضًا.
و أم زيد بنت حرام و أم سليم وأم رومان وأم حرام وأم معبد وأم كلثوم، وأم البنين بنت حزام إحدى زوجات سيدنا علي بعد فاطمة رضي الله عنها.
وكذلك كنى النبي "هانئ "بأبي شريح، عَنْ هَانِئٍ أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِى الْحَكَمِ (أي أن النبي سمع القوم يكنون هانئ بأبي الحكم)، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«
» (صحيح النسائي[5402]).بل وكنى النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا عبد الله بن مسعود بنفسه، عَن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنَّاهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ وَلَمْ يُولَدْ لَهُ.
بل وعبدالله ابن مسعود نفسه قد كنى صحابيًا آخرًا بكنية، روى البخاري في "الأدب المفرد" تحت "باب الكنية قبل أن يولد له" عن إبراهيم النخعي: أن عبد الله بن مسعود كنَّى علقمة "أبا شبل"، ولم يولد له، يعني عبدالله كنى علقمة بكنية "أبو شبل" رغم أنه ليس له أولاد، وهذا باب مخصوص في كتاب الأدب المفرد للبخاري، يعني سنة بالفعل ومن الآداب التي ميزت الإسلام دون باقي الأمم.
وما يؤكد هذا الأمر أكثر كنية "أبو عمير" صاحب النغير وقصته المشهورة في البخاري في باب "الكنية للصبي، وقبل أن يولد للرجل": عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «صحيح مسلم[2150]) والنُّغَيْرُ: طائر صغير يشبه العصفور، وقيل: هو البلبل
» (بل وذهبت الكاتبة في مقالها إلى أن النبي طالما لم يأمر الصحابة بمناداته بكنية فلنترك الكنية إذن! ولم تورد أنه بالفعل له كنيتان، وأنا أتساءل هنا: حياة طويلة عاشها الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى بنفسه كنية لبعضهم ولبعض زوجاته، ألا يدل ذلك على أي شيء؟ وهل غاب عن ذهن النبي صلى الله عليه وسلم أن ينصح الأمة بترك الكنية واعتبارها من التراث الجاهلي وينتهي الأمر!؟ حاشا وكلا.
4- أن الكاتبة حفظها الله لجأت لتحقيق هدفها الطيب هذا -ألا هو توعية النساء بعدم الخجل من أسمائهن- لجأت إلى تبغيضهن في الكنية من الأساس وإشعارهن أن فيها تحقير لشأنهن وإلغاء لشخصيتهن وأنها شر لابد من مواجهته لئلا يستشري!، في حين أن خير القرون والذين يلونهم قد اتخذوا التكني سنة بالفعل ومكرمة، بل قد اشتكت عائشة للرسول أن كل صواحبها لها كنية ماعدا هي! فهل يشتكي من مثل هذا إلا من حرم خيرًا عظيمًا بالفعل ولا يشعر بالهناء إلا بعد اغتنامه؟ فعلام الشكوى إذن! عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «
» (صحيح أبي داود[4970]) رغم أنه ليس ابنًا بالفعل، فقد قال النبي "ابنك" مجازًا، فهو عبدالله بن الزبير ابن أخت عائشة.5- المقالة تعللت في طرحها لكراهة الكنية، باختلاط تعيين الأشخاص حال النداء مثلًا أو نحوه، بسبب الكنى المتشابهة، وضربت مثالًا لذلك بـ"أم محمد" واختلاط دعوة الزفاف بينها وبين جارتها حيث أن كلتاهما لها نفس اسم الابن فتكنى بنفس الكنية، مما جعل دعوة زفاف أقارب جارتها تأتي لها هي بالخطأ بدلًا من جارتها! فأقول: وكيف بنا حين نعلم أن ثلاثة من أمهات المؤمنين كنين بنفس الكنية في ذات الوقت ألا وهي "أم المساكين"، زينب بنت جحش والعالية بنت ظبيان وزينب بنت خزيمة، كلهن تكنى بأم المساكين.
6- المقالة تعللت كذلك في تحفيزها للناس على استعمال الأسماء الأصلية دون الكنى بأن الأشرف هو الدعوة بالاسم لا بالكنية، وساقت مثالًا لذلك "أبي لهب" على أنه قد ذكر بالكنية في القرءان في حين أن محمد صلى الله عليه وسلم ذكر باسمه الأصلي، وأوردت المقالة قولًا للقرطبي في المسألة -لا أعلم صحته- يدلل على أن الاسم أشرف من الكنية، في حين أن العلماء قد قالوا بأن أبا لهب قد كني دون اسمه ليس تحقيرًا له بالكنية أو تقليلًا لشأنه بها بقدر تجنب ذكر اسمه الشركي "عبد العزى"، ولأن تلك الكنية هي ما اشتهر هو بها أكثر بالفعل، فقال النووي رحمه الله: "باب جواز تكنية الكافر، والمبتدع، والفاسق، إذا كان لا يُعرف إلا بها، أو خيف من ذِكره باسمه فتنة -قال الله تعالى: {تبت يدا أبي لهب} [ المسد:1]، واسمه: عبد العزى، قيل: ذُكر بكنيته لأنه يعرف بها، وقيل: كراهةً لاسمه حيث جعل عبدًا للصنم.
وأخيرًا، نعلم حرص الكاتبة صاحبة المقالة على نشر الوعي، ونثبتُ لها إنصاف النساء المسلمات مما انتشر من ثقافات مجتمعية خاطئة، ولكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولا يسعنا إلا أن نثبت ما أثبته الشرع الصحيح، ونعض عليه بالنواجذ، رزقنا الله وإياها البصيرة دومًا بكل ما يرضيه.
أسماء أمة الله.