فضول الأكل والنوم
اعلم أن من أعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن؛ إذ بها أخرج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار؛ إذ نهيا عن الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهم.
- التصنيفات: تربية النفس - تزكية النفس -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
اعلم أن من أعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن؛ إذ بها أخرج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار؛ إذ نهيا عن الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما، والبطن -على التحقيق- ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات، إذ يتبعها شهوة الفرج، ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال اللذان هما وسيلة إلى التوسع في المطعومات، ثم يتبع استكثار المال والجاه وأنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات، وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء، ولو ذلل العبد نفسه بالجوع وضيق مجاري الشيطان لأذعنت لطاعة الله عز وجل ولم تسلك سبيل البطر والطغيان.
عن المقدام بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « » (رواة الترمذي [2302])، وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها، وقد روى أن ابن أبي ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: "لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت المارستانات-أي المستشفيات- ودكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا لأن أصل كل داء التخمة"، فهذا من منافع قلة الغذاء وترك التملؤ من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته.
وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه فإن قلة الغذاء توجب رقة القلب وقوة الفهم وانكسار النفس وضعف الهوى والغضب، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك، وقد ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى التقلل من الأكل في الحديث المتقدم, وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « » (صحيح البخاري [4974])، والمراد أن المؤمن يأكل بآداب الشرع فيأكل في معي واحد والكافر بمقتضى الشهوة والشره، والنهم يأكل في سبعة أمعاء.
ويروى عن لقمان أنه قال لابنه: "إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة".
فمن فوائد الجوع: أنه يورث الانكسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى، فلا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع، فعنده تسكن لربها وتخشع له وتقف على عجزها وذلها إذا ضاقت حيلتها بلقيمة طعام فاتتها، وأظلمت عليها الدنيا لشربة ماء وتأخرت عنها.
وما لم يشاهد الإنسان ذل نفسه وعجزه لا يرى عزة مولاه ولا قهره، وإنما سعادته في أن يكون دائمًا مشاهدًا نفسه بعين الذل والعجز، ومولاه بعين العز والقدرة القهر، فليكن دائمًا جائعًا مضطرًا إلى مولاه.
وعلى الجملة لا سبيل إلى إهمال النفس في الشهوات المباحة وإتباعها بكل حال، فبقدر ما يستوفى العبد من شهوته يخشى أن يقال له يوم القيامة: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} [الأحقاف:20]. وبقدر ما يجاهد نفسه ويترك شهوته يتمتع في الدار الآخرة.
ومما ينبغي البعد عن فضوله فضول النوم؛ لأن فضول النوم وكثرته تميت القلب، وتثقل البدن، وتضيع الوقت، وتورث كثرة الغفلة والكسل، ومنه المكروه جدًا، ومنه الضار غير النافع للبدن، وأنفع النوم ما كان عند شدة الحاجة إليه، ونوم أول الليل أنفع من آخره، ونوم وسط النهار أنفع من طرفيه، وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه، وكثر ضرره ولا سيما نوم العصر، والنوم أول النهار إلا لسهران، ومن المكروه النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، فإنه وقت غنيمة، وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة، حتى لو ساروا طول ليلتهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس، فإنه أول النهار ومفتاحه، ووقت نزول الأرزاق وحصول القسمة، وحلول البركة، ومنه ينشأ النهار، وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحصة، فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر.
وبالجملة فأعدل النوم وأنفعه نوم نصف الليل الأول، وسدسه، والأخير وهو مقدار ثمان ساعات، وهذا أعدل عند الأطباء، وما زاد عليه أو نقص منه أثر عندهم في الطبيعة انحرافًا جسيمًا.
ومن النوم الذي لا ينفع أيضًا: النوم أول الليل عقب غروب الشمس، وكان رسول صلى الله عليه وسلم يكرهه فهو مكروه شرعًا وطبعًا.
وفي كثرة النوم ضياع العمر، وفوت التهجد وبلادة الطبع وقسوة القلب، والعمر أنفس الجواهر وهو رأس مال العبد فيه يتجر، والنوم موت فتكثيره ينقص العمر، ثم فضيلة التهجد لا تخفى، وفي النوم فواتها، ومهما غلب النوم فإنه إن تهجد لم يجد حلاوة العبادة.
وكما أن كثرة النوم مورثة لهذه الآفات، فمدافعته وهجره مورث لآفات أخرى عظام من سوء المزاج، ويبسه وانحراف النفس وجفاف الرطوبة المعينة على الفهم والعمل، ويورث أمراضًا مختلفة لا ينتفع صاحبها بقلبه ولا ببدنه معها، وما قام الوجود إلا بالعدل، فمن اعتصم به فقد أخذ بحظه من مجامع الخير. والله المستعان.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.